بِلَا عِوَضٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْآجِرُ فَأُقِيمَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَقَامَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْآجِرِ، وَهَهُنَا لَا ضَرَرَ فِي التَّوَقُّفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَوَقَّفَ التَّأَكُّدُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَتَأَكَّدُ، وَلَنَا قَوْلُهُ ﷿: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٢٠] ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] .
نَهَى ﷾ الزَّوْجَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَأَبَانَ عَنْ مَعْنَى النَّهْيِ لِوُجُودِ الْخَلْوَةِ كَذَا قَالَ الْقُرَّاءُ: إنَّ الْإِفْضَاءَ هُوَ الْخَلْوَةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَمَأْخَذُ اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَلَا بِنَاءَ فِيهِ وَلَا حَاجِزَ يَمْنَعُ عَنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَلْوَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهِيَ الَّتِي لَا حَائِلَ فِيهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَإِقَامَةَ الْمُتْعَةِ مَقَامَ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَبَقِيَ حَالُ مَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إذَا أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إمَّا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَإِمَّا فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ثَبَتَ مُوَسَّعًا وَيَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَالدَّيْنُ الْمُضَيَّقُ وَاجِبُ الْقَضَاءِ.
قَالَ النَّبِيُّ: ﷺ: «الدَّيْنُ مُضَيَّقٌ» ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مَتَى صَارَ مِلْكًا لَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِإِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِكِ أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً إمَّا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ أَوْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ سَقَطَ النِّصْفُ بِإِسْقَاطِ الشَّرْعِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى إلَّا بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِعْلُ الزَّوْجِ، وَالْمَهْرُ مِلْكُهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ إلَى زَوْجِهَا فَيَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ أَنَّ الْمُبْدَلَ هُوَ مَا يُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ إلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْدُومَةٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا لَكِنْ لَهَا مَحَلٌّ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَيْنُ وَأَنَّهَا مُتَصَوَّرُ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً فَيُقَامُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَقَدْ وُجِدَ تَسْلِيمُ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ سَالِمًا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَكُّنُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ التَّسْلِيمِ كَمَا يَقْتَضِي مِلْكًا بِإِزَاءِ مِلْكٍ تَحْقِيقًا بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ.
كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَسِيسِ هُوَ الْخَلْوَةُ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَنَّ فِيهَا إيجَابَ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ لَا إسْقَاطَ النِّصْفِ الْبَاقِي أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدٌ فَقَالَ: نِصْفُ هَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلنِّصْفِ الْبَاقِي، فَكَانَ حُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي مَسْكُوتًا عَنْهُ فَبَقِيَتْ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْبَقَاءِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَبْقَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّأَكُّدُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ فَمَمْنُوعٌ بَلْ كَمَا يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ يَثْبُتُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَتَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ تَفْسِيرُ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْء لَا حَقِيقِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ وَلَا طَبْعِيٌّ.
أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ أَوْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ؛ لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرْنَ يَمْنَعَانِ مِنْ الْوَطْءِ وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ، إنْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَوْ خَصِيًّا؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْوَطْءِ فَكَانَتْ خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا، وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ كَالْقَرْنِ وَالرَّتْقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ