لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لَمَّا أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ فَلَأَنْ تُوجِبَ الْعِدَّةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَفِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ فِيهِ الْخَلْوَةُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الْمَهْرِ، وَهَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ؟ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْفَسَادُ لِمَانِعٍ حَقِيقِيٍّ لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْوَطْءُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا أَوْ طَبْعِيًّا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَعَ وُجُودِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَانِعِ مُمْكِنٌ فَيُتَّهَمَانِ فِي الْوَطْءِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الطَّلَاقِ احْتِيَاطًا وَاَللَّهُ ﷿ الْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا التَّأَكُّدُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ الْمُسَمَّى، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كَانَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ بَلْ انْتَهَى نِهَايَتهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لِلْعُمْرِ فَتَنْتَهِي نِهَايَتُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ، وَإِذَا انْتَهَى يَتَأَكَّدُ فِيمَا مَضَى، وَيَتَقَرَّرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ يَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ فَيَتَقَرَّرُ الْوَاجِبُ، وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ لَمَّا وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالْمَوْتُ لَمْ يُعْرَفْ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ.
فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَا يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ الْمَهْرُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بِالْقَتْلِ فَوَّتَتْ عَلَى الزَّوْجِ حَقَّهُ فِي الْمُبْدَلِ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يَصِيرُ تَفْوِيتًا لِلْحَقِّ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ، وَالْمَهْرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ الْوَرَثَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ التَّقْبِيلِ وَالرِّدَّةِ كَانَ مِلْكَهَا فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ سَقَطَ مَهْرُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ بَلْ يَتَأَكَّدُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ مُؤَكِّدٌ لِلْمَهْرِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَوْتُ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَيَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَتَلَهَا زَوْجُهَا وَكَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ إنَّمَا أَكَّدَ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ، وَالشَّيْءُ إذَا انْتَهَى نِهَايَتَهُ يَتَقَرَّرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمُبْدَلُ، وَتَقَرُّرُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ لَهُ الْبَدَلُ فَوَّتَ الْمُبْدَلَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ عَلَى صَاحِبِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ كَالْبَائِعِ إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وُجِدَ تَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمُبْدَلِ هُوَ الْمَوْلَى وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُبْدَلَ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرْضَى بِمِلْكِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ إيفَاءُ الْبَدَلِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِهِ إضْرَارًا بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الضَّرَرِ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ إقْدَامُ الْمَوْلَى عَلَى تَفْوِيتِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إسْقَاطًا لِلْبَدَلِ دَلَالَةٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَسْقَطَهُ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلْبَدَلِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ عَلَى الزَّوْجِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحَقُّهُ.
وَالْإِنْسَانُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِتَفْوِيتِ الْمُبْدَلِ دَلَالَةً كَمَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالْإِسْقَاطِ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا لِلزَّوْجِ فِي مَهْرِهَا فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِمَا، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِمَا نَصًّا فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ؟ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ أَنَّ قَتْلَ الْحُرَّةِ نَفْسَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَصَارَ كَمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إنَّهَا تُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهَا كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَقَتْلُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، وَقَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً فَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ هَذَا إذَا قَتَلَهَا الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ قَتْلَهَا نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمَوْلَى إيَّاهَا بِدَلِيلِ أَنَّ جِنَايَتَهَا كَجِنَايَتِهِ فِي بَابِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِمَالِ الْمَوْلَى وَلَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى يَسْقُطُ الْمَهْرُ