لَمْ يَذْكُرْ التَّحَالُفَ إلَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ.
وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ فِيمَا لَا شَهَادَةَ لِلظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا فِي الثَّالِثِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا إلَّا بِالتَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ، وَبُدِئَ بِيَمِينِ الزَّوْجِ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ يُقْضَى بِهَا فِي بَابِ الْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكَانَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفَيْنِ قَدْ تَثْبُتُ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُسَمَّى أَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجِ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ، وَإِنْ حَلَفَ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ نَكَلَتْ لَمْ يُقْضَ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا بِالْأَلْفِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ لِمَا قُلْنَا فِي نُكُولِ الزَّوْجِ، وَإِنْ حَلَفَتْ يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا قُضِيَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِأَلْفٍ، وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفِ قَدْ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا، فَيُمْنَعُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ قُضِيَ لَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الْأَلْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُضِيَ لَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي قَدْرِ الْأَلْفِ بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ تَسْمِيَةُ هَذَا الْقَدْرِ، فَكَانَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهَا، وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُفْسَخُ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ يَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَاجِبُ الرَّفْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَذَلِكَ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَصْلًا فِي النِّكَاحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ، فَسُقُوطُ اعْتِبَارِهِ بِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى بِالتَّعَارُضِ أَوْلَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، هَذَا إذَا لَمْ يَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ.
فَأَمَّا إذَا قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، فَتُقْبَلُ، وَلَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُ ضَرُورِيٌّ، وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَنَّهَا تَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ، فَكَانَتْ مُظْهِرَةً، وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَمْ تُظْهِرْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَلْفٍ، وَالْأَلْفُ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا، أَوْ نَقُولُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ إظْهَارًا، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا، وَتَسْمِيَةُ الْآخَرِ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ تَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ: بَعْضُهُمْ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً بِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ أَوْ الْبَيِّنَةِ، وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتْ بَيِّنَتُهَا هِيَ الْمُظْهِرَةُ أَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ إظْهَارًا، وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَيْسَتْ بِمُظْهِرَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا أَوْ هِيَ أَقَلُّ إظْهَارًا، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهَا أَوْلَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجِ تُظْهِرُ حَطَّ الْأَلْفِ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ لِثُبُوتِ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَظْهَرُ حَطٌّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِشَهَادَتِهِ، وَبَيِّنَتُهَا لَا تُظْهِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا، وَالْآخَرُ كَانَ ظَاهِرًا بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ يُظْهِرَ صِفَةَ التَّعْيِينِ لِلْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ يُظْهِرُ صِفَةَ التَّعْيِينِ لَهُمَا، وَبَيِّنَتُهُ مُظْهِرَةٌ لِلْأَصْلِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا، وَخَمْسَمِائَةٍ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ لِلتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُظْهِرَةً، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَبَطَلَتْ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي قَدْرِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ الْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ لِلتَّعَارُضِ، فَبَقِيَ هَذَا الْقَدْرُ مُسَمًّى بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَهُ خِيَارٌ فِي قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ لِثُبُوتِهِ عَلَى وَجْهِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَيْنًا مَوْصُوفَا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ مَذْرُوعٍ مَوْصُوفٍ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَلِهَذَا يَتَحَالَفَانِ، وَيُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعِ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ إذَا كَانَ عَيْنًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ غَائِبٌ مَذْكُورٌ يَخْتَلِفُ أَصْلُهُ بِاخْتِلَافِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute