فَيَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُمْ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَتَمْلِيكُهُمَا، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يُعْتَرَضُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الشُّهُودِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَالَ اللَّهُ: تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢] ، فَلَا يُؤَاخَذُ الْكَافِرُ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّهَادَةِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّقْيِيدَ بِهَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّهُمْ بِالذِّمَةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، فَنَعَمْ لَكِنَّ جَوَازَ أَنْكِحَتِهِمْ بِغَيْرِ شُهُودٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ عَامٌّ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ خَاصٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ عُمُومَاتُ الْكِتَابِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً فِي عِدَّةٍ مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا، وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ سَوَاءٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ، وَإِنْ تَرَافَعَا إلَيْنَا.
وَلَوْ أَسْلَمَا يُقَرَّانِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا لِزُفَرَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بِقَبُولِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا، وَمِنْ أَحْكَامِنَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَسَادُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ عَامٌّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] ، وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ، وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي دِيَانَتِهِمْ عَدَمَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ.
وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةُ مُطْلَقَةٌ عَنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَعْنِي الْخُلُوَّ عَنْ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهِيَ حَقُّ الزَّوْجِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩] ، فَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ أَوْ قُرُبَاتٌ.
وَكَذَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقُّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي عِدَّةٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ الْعِدَّةَ حَقًّا وَاجِبًا، فَيُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِحَقِّهِ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُجْبِرَ امْرَأَتَهُ الْكَافِرَةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِالْقُرُبَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْإِسْكَانَ حَقُّهُ، وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاسِدٌ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ، فَسَادَ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ لِفَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَخَوْفِ الْجَوْرِ فِي قَضَاءِ الْحُقُوقِ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَالْكِسْوَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَالْفَسَادِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ، وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ دَانُوا ذَلِكَ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ كَمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَإِذَا تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي، فَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَرَافَعَا، فَقَدْ تَرَكَا مَا دَانَاهُ، وَرَضِيَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَرَافَعَا، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِسْلَامُ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ سَوَاءٌ تَرَافَعَا إلَيْنَا أَوْ لَمْ يَتَرَافَعَا.
وَلَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يَتَرَافَعَا جَمِيعًا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٩] أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْمُرَافَعَةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ ﷾ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِهَا مُطْلَقًا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَأَمْكَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَزِمَ التَّنْفِيذُ فِيهَا، وَكَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ زِنًا مِنْ وَجْهٍ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَجِيءَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، وَأَثْبَتَ