لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ السُّكُوتِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ فِي دِيَانَتِهِمْ بِمَهْرٍ، وَبِغَيْرِ مَهْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ، فَلَا بُدَّ لِوُجُوبِهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَهُوَ التَّسْمِيَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ، فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِ الْمَهْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ الْتِزَامًا لِلْمَهْرِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ السُّكُوتِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا سَكَتَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَمْ تُعْرَفْ دِيَانَتُهُ النِّكَاحَ بِلَا مَهْرٍ، فَيُجْعَلْ إقْدَامُهُ عَلَى النِّكَاحِ الْتِزَامًا لِلْمَهْرِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا نَفَى الْمَهْرَ نَصًّا دَلَّ أَنَّهُ يَدِينُ النِّكَاحَ، وَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا بِلَا مَهْرٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ نِكَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُتْرَكُ، وَمَا يَدِينُهُ، فَهُوَ الْفَرْقُ، ثُمَّ مَا صَلُحَ مَهْرًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُنَا عَلَيْهِ كَانَ نِكَاحُهُمْ عَلَيْهِ أَجْوَزَ، وَمَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِهِمْ أَيْضًا إلَّا الْخَمْرُ، وَالْخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ، وَالْخَلِّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فِي حَقِّهِمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ، وَالْخِنْزِيرُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُقْبَضْ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهَا الْقِيمَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْعَيْنُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَكِنْ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَاهٍ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ عِنْدَ الزَّوْجِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ.
وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ، فَكَانَ الْقَبْضُ مُؤَكِّدًا لِلْمِلْكِ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ الْقَبْضُ تَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْمَهْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِلْكًا تَامًّا إذْ الْمِلْكُ نَوْعَانِ: مِلْكُ رَقَبَةٍ، وَمِلْكُ يَدٍ، وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ لَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ الْقَبْض، وَالْمُسْلِمُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ صُورَةِ قَبْضِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِقْبَاضُهُمَا كَمَا إذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا أَنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّسْلِيمِ، وَالْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقَبْضِ.
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا غُصِبَ مِنْهُ الْخَمْرُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَكَمُسْلِمٍ أَوْدَعَهُ الذِّمِّيُّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْرَ مِنْ الْمُودِعِ يَبْقَى هَذَا الْقَدْرُ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَهْرُ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ مِلْكٍ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِلْكَهَا تَامٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ مَا أَنَّ دُخُولَهُ فِي ضَمَانِهَا أَمْرٌ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ مِلْكًا لَهَا بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَمِلْكُ التَّصَرُّفِ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمَلُّكِ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَا عَيْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَا دَيْنَيْنِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَيْنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ الَّتِي تَأْخُذُهَا مَا كَانَ ثَابِتًا لَهَا بِالْعَقْدِ بَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ تَمَلُّكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُف أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمَّا مَنْعَ الْقَبْضَ، وَالْقَبْضُ حُكْمُ الْعَقْدِ جُعِلَ كَأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ ثَابِتًا، وَقْتَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ كَانَا عِنْدَ الْعَقْدِ مُسْلِمَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الْعَقْدِ قَدْ صَحَّتْ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي الْخَمْرِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْخِنْزِيرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْخِنْزِيرِ أَيْضًا، وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَيَوَانٌ.
وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَةِ الْوَسَطِ مِنْهُ بَلْ الْقِيمَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ يُعْرَفُ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ إيفَاءُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حُكْمَ إيفَاءِ الْخِنْزِيرِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْقِيمَةِ لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَكُنْ لِبَقَائِهَا حُكْمُ بَقَاءِ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهٍ لِذَلِكَ افْتَرَقَا هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا، فَلَا شَيْءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute