للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ إثْبَاتِ الْأَصْلِ بِلَا شَكٍّ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى عَلَى أَنَّ فِيمَا قَالَهُ إضْمَارُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَاءُ، وَالْآخَرُ: الْجَالِبُ لِلْبَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ إلَّا خُرُوجًا وَلَيْسَ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إدْرَاجُ شَيْءٍ بَلْ إقَامَةُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ مَقَامَ الْغَايَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَدْوَنُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ﴿لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: ١١٠] أَيْ إلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ أَيْ إلَى وَقْتِ تَقَطُّعِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَفِي قَوْلِهِ ﷿: ﴿إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣] إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ قَالَ ﷿ فِي آخِرِ قَوْله تَعَالَى - ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وَمَعْنَى الْأَذَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَرَطَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ، فَإِنْ قَالَ إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ فَمَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَى إذْنِهِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ عَلَى حَالِهَا، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَصَوُّرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَبَقَاؤُهُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ الْإِذْنِ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا السَّمَاعُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَأْذُونِ فَلَا يُعْتَبَرُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ كَمَا لَوْ وَقَعَ الْإِذْنُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ وَهِيَ نَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ خُرُوجٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ كَلَامِ الْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِذْنِ أَنْ لَا تَخْرُجَ وَهُوَ كَارِهٌ وَقَدْ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٣] أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ يَجْرِي مَجْرَى الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، وَقَوْلَهُ إلَّا بِإِذْنِي يَجْرِي مَجْرَى الْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ مِنْ الشَّارِعِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْبُلُوغِ، كَذَا مِنْ الْحَالِفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة: ٩٣] إنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ.

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى يَقِفَ تَصَرُّفُهُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالتَّوْكِيلُ إذْنٌ وَإِطْلَاقٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٣] أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ خُرُوجٍ إلَّا الْخُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْخُرُوجُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَا كَانَتْ نَائِمَةً فَأَذِنَ لَهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ سَمَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهَا وَهِيَ تَسْمَعُ إلَّا أَنَّهَا غَافِلَةٌ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ عَادَةً وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ سَمَاعًا فِي الْعُرْفِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ،.

وَقِيلَ إنَّ النَّائِمَ يَسْمَعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِوُصُولِ الصَّوْتِ إلَى صِمَاخِ أُذُنِهِ وَالنَّوْمُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ يَقْظَانُ لَكِنَّهُ غَافِلٌ وَحَكَى ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وَقَدْ أَذِنَ.

قَالَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْرِ.

وَرَوَى نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، إلَّا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِذْنِ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ أَطِعْ فُلَانًا فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ فَالْمَوْلَى حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِطَاعَةِ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِرَجُلٍ: ائْذَنْ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ فَخَرَجَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: قُلْ: يَا فُلَانُ مَوْلَاك قَدْ أَذِنَ لَك فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>