للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الشُّرْبِ أَنَّهُ إيصَالُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْمَضْغُ مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ فَأَكَلَ لَا يَحْنَثُ.

كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَشَرِبَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِعْلَانِ مُتَغَايِرَانِ قَالَ اللَّهُ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ﴾ [البقرة: ١٨٧] عَطَفَ الشُّرْبَ عَلَى الْأَكْلِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَيَّ شَرَابٍ شَرِبَ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَنْعَ نَفْسَهُ عَنْ الشُّرْبِ عَامًّا وَسَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرَابِ يُسَمَّى شَرَابًا وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَأَكَلَ شَيْئًا يَسِيرًا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَلِيلَ الطَّعَامِ طَعَامٌ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَأَيَّ نَبِيذٍ شَرِبَ حَنِثَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِنْ شَرِبَ سَكَرًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السَّكَرَ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِخَمْرِ التَّمْرِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ مَاءِ التَّمْرِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لَوْ شَرِبَ فَضِيخًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ وَكَذَا لَوْ شَرِبَ عَصِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا.

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَعَ فُلَانٍ شَرَابًا فَشَرِبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ فِيهِ مُخْتَلِفًا وَكَذَا لَوْ شَرِبَ الْحَالِفُ مِنْ شَرَابٍ وَشَرِبَ الْآخَرُ مِنْ شَرَابٍ غَيْرِهِ وَقَدْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الشُّرْبِ مَعَ فُلَانٍ فِي الْعُرْفِ هُوَ أَنْ يَشْرَبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اتَّحَدَ الْإِنَاءُ وَالشَّرَابُ أَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَنْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ يُقَالُ شَرِبْنَا مَعَ فُلَانٍ وَشَرِبْنَا مَعَ الْمَلِكِ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يَتَفَرَّدُ بِالشُّرْبِ مِنْ إنَاءٍ فَإِنْ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا وَمِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ.

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنْ الْفُرَاتِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَرْعًا وَهُوَ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَيْهِ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنْ أَخَذَ الْمَاءَ بِيَدِهِ أَوْ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثُ شَرِبَ كَرْعًا أَوْ بِإِنَاءٍ أَوْ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يُصْرَفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ رَفَعَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوَانِي أَنَّهُ يُسَمَّى شَارِبًا مِنْ الْفُرَاتِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْكَلَامِ عَلَى غَلَبَةِ الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَعَارَفًا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ هَذَا الْقِدْرِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّجَرَةِ مِنْ الثَّمَرِ وَإِلَى مَا يُطْبَخُ فِي الْقِدْرِ مِنْ الطَّعَامِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ الْفُرَاتِ هُوَ أَنْ يَكْرَعَ مِنْهُ كَرْعًا لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ هَهُنَا اُسْتُعْمِلَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ بِلَا خِلَافٍ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى التَّبْعِيضِ إذْ الْفُرَاتُ اسْمٌ لِلنَّهْرِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْرُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ ضِفَّتَيْ الْوَادِي لَا لِلْمَاءِ الْجَارِي فِيهِ فَكَانَتْ كَلِمَةُ مِنْ هَهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ وَلَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ مِنْهُ إلَّا وَأَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَيْهِ فَيَشْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْكَرْعِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِنْ إنَاءٍ أُخِذَ فِيهِ الْمَاءُ مِنْ الْفُرَاتِ كَانَ شَارِبًا مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ حَقِيقَةً لَا مِنْ الْفُرَاتِ وَالْمَاءُ الْوَاحِدُ لَا يُشْرَبُ مِنْ مَكَانَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَوْ قَالَ شَرِبْت مِنْ الْإِنَاءِ لَا مِنْ الْفُرَاتِ كَانَ مُصَدَّقًا وَلَوْ قَالَ عَلَى الْقَلْبِ كَانَ مُكَذَّبًا فَدَلَّ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ الْفُرَاتِ هُوَ الْكَرْعُ مِنْهُ وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «رَأَى قَوْمًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ مَاءٍ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَيَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرٌ فِي زَمَانِنَا مِنْ أَهْلِ الرَّسَاتِيقِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُسْتَعْمَلًا فَذَا لَا يُوجِبُ كَوْنَ الِاسْمِ مَنْقُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الِاسْمُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ تَسْمِيَةً وَنُطْقًا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً تَسْمِيَةً وَنُطْقًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قِلَّةَ الْحَقِيقَةِ وُجُودًا لَا يَسْلُبُ اسْمَ الْحَقِيقَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ هَذَا الْقِدْرِ لِأَنَّ هَهُنَا كَمَا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِتَبْعِيضِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِخُرُوجِ الشَّجَرَةِ وَالْقِدْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا ابْتِدَاءَيْنِ لِغَايَةِ الْأَكْلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَكَانِ بَلْ مِنْ الْيَدِ لِأَنَّ الْمَأْكُولَ مُسْتَمْسِكٌ فِي نَفْسِهِ وَالْأَكْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَلْعِ عَنْ مَضْغٍ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَأُضْمِرَ فِيهِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَهُوَ الثَّمَرَةُ فِي الشَّجَرَةِ وَالْمَطْبُوخُ فِي الْقِدْرِ فَكَانَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهَهُنَا أَمْكَنَ جَعْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُشْرَبُ مِنْ مَكَان لَا مَحَالَةَ لِانْعِدَامِ اسْتِمْسَاكِهِ فِي نَفْسِهِ إذْ الشُّرْبُ هُوَ الْبَلْعُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ وَمَا يُمْكِنُ ابْتِلَاعُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ لَا يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ اسْتِمْسَاكٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَامِلٍ لَهُ يُشْرَبُ مِنْهُ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ وَلَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>