طَلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَوَضَحَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» نَهَى ﷺ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَعْدَ النَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ هَهُنَا غَيْرًا حَقِيقِيًّا مُلَازِمًا لِلطَّلَاقِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُشَرَّعِ لِمَكَانِ الْحَرَامِ الْمُلَازِمِ لَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃ فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالطَّلَاقُ إبْطَالٌ لَهُ وَإِبْطَالُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] وَهَذَا مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْأَخْلَاقِ وَتَبَايُنِ الطَّبَائِعِ أَوْ لِفَسَادٍ يَرْجِعُ إلَى نِكَاحِهَا بِأَنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَفُوتُهُ بِنِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ أَنَّ الْمُقَامَ مَعَهَا سَبَبُ فَسَادِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَسْتَوْفِيَ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَلَمْ يَنْظُرْ حَقَّ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ قَائِمٌ فَالشَّرْعُ وَالْعَقْلُ يَدْعُوَانِهِ إلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً حَتَّى أَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الصَّلَاحِ إذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتُوبُ نَظَرَ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُرَاجِعْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُطَلِّقْهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي ثَانِيًا وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَخْرُجُ نِكَاحُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَالِبًا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِ نِكَاحِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَصَيْرُورَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ الْغَضَبِ؛ وَلَيْسَتْ حَالَةُ الْغَضَبِ حَالَةَ التَّأَمُّلِ؛ لَمْ يَعْرِفْ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فَكَانَ الطَّلَاقُ إبْطَالًا لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ مَفْسَدَةً.
وَالثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مَسْنُونٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَكَانَ الطَّلَاقُ قَطْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَفْوِيتًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لِلتَّخْلِيصِ وَالتَّأْدِيبُ يَحْصُلُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَإِذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَتَأَدَّبُ وَتَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالصَّلَاحِ، وَالتَّخْلِيصُ يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَالثَّابِتُ بِالرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ صَارَ مَقْضِيًّا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: ١] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْ نَدَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ رَغْبَةً فِيهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالنِّكَاحِ فَيَقَعُ فِي السِّفَاحِ فَكَانَ فِي الْجَمْعِ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّدَارُكِ بِالرَّجْعَةِ وَبِخِلَافِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَقِّبُ النَّدَمَ ظَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي الْأَطْهَارِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَنَا تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلْعِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الطَّلَاقِ الْوَاحِدِ الْبَائِنِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَذَكَرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ لَا يُفَارِقُ الرَّجْعِيَّ إلَّا فِي صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، وَصِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لَا تُنَافِي صِفَةَ السُّنَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنَةً وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَذَا الْخُلْعُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ بَائِنٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ (وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute