دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَخْيِيرٌ لَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لَا يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى يَدِهَا بِذَلِكَ الْجَعْلِ أَبَدًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْتِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦]
وَقَالَ: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: ٦٤] فَيُقْتَضَى تَكْرَارُ التَّمْلِيكِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا لَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ: أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا اخْتَارَتْ فَقَدْ انْتَهَى مُوجَبُ ذَلِكَ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ يَتَجَدَّدُ لَهَا الْمِلْكُ بِتَمْلِيكٍ آخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ مَشِيئَةٍ أُخْرَى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ بَانَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ طَلَقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا طَلَقَاتِ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ فَمَا لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ؟ وَإِنْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ فَلَهَا أَنْ تَشَاءَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً لَا يَتَكَرَّرُ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَقْتِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى مُوجِبُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ التَّفْوِيضُ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ: فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مِنْ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ يَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ وَمَا لَا فَلَا إلَّا فِي لَفْظِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ وَيَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا، فَمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا فَلَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ أَوْ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيْكَ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي وَعَلَيَّ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنِّي أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيَّ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا بَائِنٌ أَوْ أَنَا حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا.
وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنَا طَالِقٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا مِنْك طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي كَانَ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقًا، وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا فَطَلَاقٌ وَاحِدٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك وَلَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ، أَمَّا وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّفْوِيضِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعَدَدِ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا بَائِنَةً فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ، وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِنَا مُنْبِيَاتٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك جَعَلَ أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةَ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةَ نَفْسِهَا بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ.
وَإِنْ قَرَنَ بِهِ ذِكْرَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الصَّرِيحَ حَيْثُ