للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وُجُودَ الْمَوْصُوفِ فَثَبَتَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْعِ فَيُتَّبَعُ مَوْرِدُ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ مَعَ قَرِينَةِ الْفِرَاقِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ قَرِينَةِ النَّفْسِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْفِرَاقِ مُضْمَرٌ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ [الأحزاب: ٢٨] بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٢٩] فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ كَأَنَّهُ قَالَ ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ [الأحزاب: ٢٨] مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ فَكَانَ ذَلِكَ تَخْيِيرًا لَهُنَّ بَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَكُنَّ مُخْتَارَاتٍ لِلطَّلَاقِ لَوْ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُنَّ الدُّنْيَا وَزْنِيَّتهَا اخْتِيَارًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا.

وَالصَّحَابَةُ جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْمَجْلِسَ، وَقَالُوا: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ الشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَيُقْتَصَرُ حُكْمُهُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي مَعْنَاهُ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ فَلَمْ تَأْتِ بِالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ وَإِذَا قَالَ: لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي.

وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك وَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَتَتْ بِالْجَوَابِ.

وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: أَخْتَارُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الِاخْتِيَارِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ.

وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتِيَارَةً يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالثَّانِي مَعْنَى التَّوَحُّدِ وَالتَّفَرُّدِ، فَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ.

وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك، فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَ جَوَابًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي أَوْ أَهْلِي وَالْأَزْوَاجَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ جَوَابًا.

وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ وَلَا فِي لَفْظِ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَلْحَقُ بِأَبَوَيْهَا وَأَهْلِهَا وَتَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ عَادَةً، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا هَؤُلَاءِ دَلَالَةً عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقَ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ.

(وَأَمَّا) الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ وَاحِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ - وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ - وَيَكُونُ بَائِنًا عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ بِالتَّخْيِيرِ الطَّلَاقَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَنَوَتْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَيْضًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا» وَعَنْ مَسْرُوقٍ.

عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ يَكُونُ طَلَاقًا؟ فَقَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَ طَلَاقًا» ؛ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ.

وَاخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاض عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>