للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ، وَاسْتِثْنَاءٌ عُرْفِيٌّ أَمَّا الْوَضْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ كَلِمَةُ إلَّا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوُ سِوَى، وَغَيْرَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعُرْفِيُّ فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ فِي الْوَضْعِ لِانْعِدَامِ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الْمَوْجُودُ كَلِمَةُ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُمْ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: ١٧] ﴿وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾ [القلم: ١٨] أَيْ: لَا يَقُولُونَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مُنَاسَبَةٌ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَالصَّرْفُ دُونَ الْحَقِيقَةِ فَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ اسْتِثْنَاءُ تَحْصِيلٍ، وَاسْتِثْنَاءُ تَعْطِيلٍ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءَ تَحْصِيلٍ؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالثَّانِي تَعْطِيلًا لِمَا أَنَّهُ يَتَعَطَّلُ الْكَلَامُ بِهِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ دُونَ قَوْلِهِمْ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى إمَّا أَنْ يَدْخُلَ بَعْدَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ، وَإِنْ دَخَلَ يَتَنَاقَضُ الْكَلَامُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُثْبِتُ، وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْفِي، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ مُثْبَتًا، وَمَنْفِيًّا، وَلِهَذَا فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: ١٤] مَا ذَكَرْنَا حَتَّى يَصِيرَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ، وَخَمْسِينَ عَامًا لَا مَعْنَى الْإِخْرَاجِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَا يَنْزِلُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيقِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَأَمَّا) شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا أَمَّا الَّذِي يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسُكُوتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ ، وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُّ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمَا قَالَ.

وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَصِحُّ مُقَارِنًا، وَمُتَرَاخِيًا فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا، وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا أَنْ لَا يَقِفَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْوَقْفُ عِنْدَ الْوَصْلِ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمَوْصُولِ، فَلَا يَقِفُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الشَّرْطِ الْمُنْقَطِعِ فَكَذَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ وَلِأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَعُدُّونَهُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَكَادُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ.

وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي فَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَيْسَ بِبَيَانٍ بَلْ هُوَ فَسْخٌ، فَلَا يَلْزَمُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَيَانٌ لَكِنَّ إلْحَاقَ الْبَيَانِ بِالْمُجْمَلِ، وَالْعَامِّ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ مُتَرَاخِيًا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّهُ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﷿.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِسَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ ﷿ ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ [الكهف: ٢٣] ﴿إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٤] أَيْ: إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَسِيَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَأُمِرَ بِاسْتِدْرَاكِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤] ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا، وَأَرَادَ فِي قَلْبِهِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْفَصْلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ،.

فَأَمَّا إذَا كَانَ لِضَرُورَةِ التَّنَفُّسِ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ سَكْتَةً هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَصْلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فَصْلًا، وَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْوَصْلِ لِلضَّرُورَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مَسْمُوعًا فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ، وَأَتَى بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا.

وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِدُونِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>