للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثَّوْبِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَتَخَلَّلُ فِي الثَّوْبِ كَمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهَا لِتَخَلْخُلِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَبِالْجَفَافِ انْجَذَبَتْ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهَا، فَتَبْقَى أَجْزَاؤُهَا فِيهِ فَلَا تَزُولُ بِإِزَالَةِ الْجُرْمِ الظَّاهِرِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَصَارَ كَالْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ عِنْدَ الْجَفَافِ؛ لِأَنَّ الْمَنِيَّ شَيْءٌ لَزِجٌ لَا يُدَاخِلُ أَجْزَاءَ الثَّوْبِ.

وَإِنَّمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ يَجْذِبُهَا الْمُسْتَجْسِدُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَيَطْهُرُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَالثَّانِي - أَنَّ إصَابَةَ هَذِهِ الْأَنْجَاسِ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ مِمَّا يَكْثُرُ، فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِالْمَسْحِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، وَالْحَرَجُ فِي الْأَرْوَاثِ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا سَوَّى فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ الْكُلِّ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الْحَتِّ وَالْمَسْحِ يَعُودُ نَجِسًا، هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إذَا تَشَرَّبَ فِيهِ النَّجَسُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، إلَّا أَنَّ مُعْظَمَ النَّجَاسَةِ قَدْ زَالَ، فَجُعِلَ الْقَلِيلُ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، لَا أَنْ يَطْهُرَ الْمَحَلُّ حَقِيقَةً، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ فَهَذَا مَاءٌ قَلِيلٌ جَاوَرَهُ قَلِيلُ نَجَاسَةٍ فَيُنَجِّسُهُ، وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا حُتَّ طَهُرَ، وَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صُلْبًا صَقِيلًا، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا يَطْهُرُ بِالْحَتِّ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ فِي أَجْزَائِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَظَاهِرُهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ وَالْحَثِّ وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْأَرْضَ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِهَذَا التُّرَابِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ.

(وَلَنَا) طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَطْهُرْ حَقِيقَةً لَكِنْ زَالَ مُعْظَمُ النَّجَاسَةِ عَنْهَا، وَبَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَيُجْعَلُ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ، فَعَلَى هَذَا إذَا أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً لِمَا بَيَّنَّا.

وَالثَّانِي - أَنَّ الْأَرْضَ طَهُرَتْ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَنْ طَبْعِ الْأَرْضِ أَنَّهَا تُحِيلُ الْأَشْيَاءَ، وَتُغَيِّرُهَا إلَى طَبْعِهَا، فَصَارَتْ تُرَابًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَبْقَ نَجِسٌ أَصْلًا، فَعَلَى هَذَا إنْ أَصَابَهَا لَا تَعُودُ نَجِسَةً، وَقِيلَ: إنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ لِأَبِي يُوسُفَ، وَالثَّانِي لِمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا، تَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ نَجِسًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَهُمَا.

(مِنْهَا) : الْكَلْبُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ، وَالْجَمْدِ، وَالْعَذِرَةُ إذَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَطِينُ الْبَالُوعَةِ إذَا جَفَّ وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَالنَّجَاسَةُ إذَا دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ، فَلَا تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ أَنْ لَا يَطْهُرَ، لَكِنْ عَرَفْنَاهُ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ عَيْنَ الْجِلْدِ طَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ، وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ، فَتَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْوَصْفِ، وَصَارَتْ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ.

(وَمِنْهَا) الدِّبَاغُ لِلْجُلُودِ النَّجِسَةِ، فَالدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ كُلِّهَا إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَامِدِ، لَا فِي الْمَائِعِ، بِأَنْ يُجْعَلَ جِرَابًا لِلْحُبُوبِ دُونَ الزِّقِّ لِلْمَاءِ وَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَمَا قُلْنَا إلَّا فِي جِلْدِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَاسْمُ الْإِهَابِ يَعُمُّ الْكُلَّ إلَّا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»

كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ مَرَّ بِفِنَاءِ قَوْمٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةً فَقَالَ أَلَسْتِ دَبَغْتِيهَا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا غُسِلَ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلُبْسِ جِلْدِ الثَّعْلَبِ، وَالْفَنَكِ، وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهَا، فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَدَلَّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِجِلْدٍ لَمْ يُدْبَغْ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>