يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا.
كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا شُرِطَ فِيهِ الْإِحْلَالُ أَوْ لَا فَكَانَ النِّكَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ نِكَاحًا صَحِيحًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] فَتَنْتَهِي الْحُرْمَةُ عِنْدَ وُجُودِهِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ النِّكَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ، وَهُوَ السَّكَنُ، وَالتَّوَالُدُ، وَالتَّعَفُّفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ، وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إلْحَاقِ اللَّعْنِ بِالْمُحَلِّلِ فِي قَوْلِهِ ﷺ «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .
وَأَمَّا إلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي هَذَا النِّكَاحَ لِقَصْدِ الْفِرَاقِ، وَالطَّلَاقِ دُونَ الْإِبْقَاءِ، وَتَحْقِيقِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الِاسْمِ، وَالثَّوَابِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَالطَّاعَةِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُفْضِي إلَى الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَتَكْرَهُهُ مِنْ عَوْدِهَا إلَيْهِ مِنْ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، وَهُوَ الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ إذْ لَوْلَاهَا لَمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَانَ إلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لِأَجْلِ الطَّلْقَاتِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ التَّوْقِيتَ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُ النِّكَاحَ فَنَقُولُ: الْمُفْسِدُ لَهُ هُوَ التَّوْقِيتُ نَصًّا.
أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِالطَّلَاقِ، وَبِالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّوْقِيتُ نَصًّا، فَلَا يَفْسُدُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ اسْتِعْجَالُ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ضَرَبَ لِأَمْرٍ أَجَلًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَإِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَّلَ هَذَا النِّكَاحَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَمِنْهَا الدُّخُولُ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَحِلُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ، وَالْوَطْءِ جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْعَقْدِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ، وَالْعَقْدُ يُوجَدُ مِنْهَا كَمَا يُوجَدُ مِنْ الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَإِنَّهُ يَقُومُ بِالرَّجُلِ، وَحْدَهُ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّهُ فَانْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَإِذَا وُجِدَ الْعَقْدُ تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ، وَالْمُرَادُ مِنْ النِّكَاحِ: الْجِمَاعُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الضَّمُّ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ الضَّمِّ فِي الْجِمَاعِ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَيْهِ فَكَانَ حَقِيقَةً لِلْجِمَاعِ مَجَازًا لِلْعَقْدِ مَعَ مَا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ لَكَانَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ يُفِيدُهُ ذِكْرُ الزَّوْجِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْلَى، بَقِيَ قَوْلُهُ: أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهَا.
وَالْجِمَاعُ مِمَّا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الزَّوْجَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا حَقِيقَةً، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَفِعْلُ الرَّجُلِ حَقِيقَةً لَكِنْ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ضَمٌّ وَجَمْعٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وَطْءٌ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ فَالْجِمَاعُ يُضْمَرُ فِيهِ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَضَرْبٍ مِنْ الْمَعْقُولِ أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ ﵂ «أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي، وَبَتَّ طَلَاقِي؛ فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ، وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ ﵄ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَمْ يَذْكُرَا قِصَّةَ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَكَشَفَ الْخِمَارَ ثُمَّ فَارَقَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ» .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عُقُوبَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمَا أَقْدَمَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا زَجْرًا، وَمَنْعًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا تَفَكَّرَ فِي حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ إلَّا بِزَوْجٍ آخَرَ - الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَتَكْرَهُهُ - انْزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَلَا تَكْرَهُهُ إذْ لَا يَشْتَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ مُجَرَّدُ النِّكَاحِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْجِمَاعُ فَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطًا فِيهِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ، وَمَنْعًا عَنْ ارْتِكَابِهِ فَكَانَ الْجِمَاعُ مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَأَنَّهُ قَالَ ﷿: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ