للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الطَّلَاقِ لَا فِي الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ ﷿ ﴿وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤] ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ﴿وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤] الْمُطَلَّقَاتُ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْحَبَلِ إنْ كَانَ أَجَلُ تِلْكَ الْعِدَّةِ أَبْعَدَ، وَعَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ إنْ كَانَ أَجَلُهَا أَبْعَدَ فَكَانَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيمَا قُلْتُمْ عَمَلٌ بِإِحْدَاهُمَا، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْأُخْرَى أَصْلًا فَكَانَ مَا قُلْنَا أَوْلَى، وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَوْلُهُ هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ ﴿وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ [الطلاق: ٤] مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ، وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ [الطلاق: ٤] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِارْتِيَابُ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ الْقُرْءَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي الْآيِسَاتِ إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَامِلُ مِمَّنْ تَحِيضُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَهُمْ شَكٌّ فِي عِدَّتِهَا لِيَسْأَلُوا عَنْ عِدَّتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا مُبْتَدَأً تَنَاوَلَ الْعِدَدَ كُلَّهَا.

وَقَوْلُهُ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ عَمَلٌ بِالْآيَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَيُقَالُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ إحْدَاهُمَا بِالتَّقَدُّمِ، وَالتَّأَخُّرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ آخِرُهُمَا نُزُولًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] ، فَأَمَّا نَسْخُ الْأَشْهُرِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ فَيُنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ يُعْمَلُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ بِعُمُومِهِ، وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى التَّنَاسُخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ، وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ نُزُولِ قَوْلِهِ ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ أَمْ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فِيهِمَا جَمِيعًا» وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ» .

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ» . وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ لَهَا: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ لَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُسْتَسْعَاةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِعُمُومِ النَّصِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ إلَّا فِي امْرَأَةِ الصَّغِيرِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَنْ مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْهُ بِيَقِينٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَانَ مِنْ الزِّنَا، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَالْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا، وَكَالْحَمْلِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] وَقَوْلُهُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَهَذَا حَمْلٌ مِنْ الزِّنَا فَيَكُونُ مَخْصُوصًا مِنْ الْعُمُومِ، فَنَقُولُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا قَدْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ الزِّنَا جَازَ نِكَاحُهَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادَةِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ فَكَانَ إيجَابُ مَا دَلَّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى وَلَا أَثَرَ لِلنَّسَبِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْأَثَرُ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ حَائِلٌ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>