تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ ﷿ لَا تَتَنَاقَضُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْفِصَالُ فِي عَامَيْنِ لَا يَنْفِي الْفِصَالَ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَامَيْنِ كَمَا لَا يَنْفِيهِ فِي أَقَلَّ مِنْ عَامَيْنِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَكَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ٣٣] الْآيَةَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْكِتَابَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَتَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَمْلِ هُوَ الْحَمْلُ بِالْبَطْنِ وَالْفِصَالُ هُوَ الْفِطَامُ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ سَنَتَيْنِ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵄ وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ الْحَمْلَ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا لَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَبَعْضُهَا مُدَّةَ الْفِصَالِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ السَّنَتَيْنِ إلَى الْوَقْتِ لَا تَقْتَضِي قِسْمَةَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمَا بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: صَوْمُك وَزَكَاتُك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
هَذَا لَا يَقْتَضِي قِسْمَةَ الشَّهْرِ عَلَيْهِمَا بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ شَهْرًا مُدَّةَ الرَّضَاعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ.
عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَاتِ ظَاهِرًا لَكِنْ مَا تَلَوْنَا حَاظِرٌ وَمَا تَلَوْتُمْ مُبِيحٌ وَالْعَمَلُ بِالْحَاظِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَشْهُورُ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» .
وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ هَذَا وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِرْضَاعَ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَيْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
ثُمَّ الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ فِي الْمُدَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا سَوَاءٌ فُطِمَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ فُصِلَ الرَّضِيعُ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثُمَّ سُقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ؛ كَانَ ذَلِكَ رَضَاعًا مُحَرِّمًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ فَيُحَرِّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ وَنِصْفٍ وَعِنْدَهُمَا مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي وَقْتِهِ عُرِفَ مُحَرِّمًا فِي الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا فُطِمَ فِي السَّنَتَيْنِ حَتَّى اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّنَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ هِيَ فَطَمَتْهُ فَأَكَلَ أَكْلًا ضَعِيفًا لَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ عَادَ فَأُرْضِعَ كَمَا يُرْضَعُ أَوَّلًا فِي الثَّلَاثِينَ شَهْرًا فَهُوَ رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُفْطَمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَفْسِيرًا لِظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِي الْمُدَّةِ بَعْدَ الْفِطَامِ إنَّمَا يَكُونُ رَضَاعًا مُحَرِّمًا لَمْ يَكُنْ الْفِطَامُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِالطَّعَامِ عَنْ الرَّضَاعِ، فَإِنْ اسْتَغْنَى لَا يُحَرِّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» عَلَى الْفِصَالِ الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْفِصَالُ التَّامُّ الْمُغْنِي عَنْ الرَّضَاعِ.
وَيَسْتَوِي فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ ﵄ إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمُ، ثُمَّ صِرْنَ إلَى خَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ فِيمَا يُقْرَأُ» .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ والإملاجتان» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ وَمُنْشِزًا لِلْعَظْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مُحَرِّمًا وَلَنَا قَوْلُهُ ﷿ ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣] مُطْلَقًا عَنْ الْقَدْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵃ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ، فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ ﵂ تَقُولُ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَخَيْرٌ مِنْ حُكْمِهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ ﵂ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَمَا الَّذِي نَسَخَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ؟ وَلَا