للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ مَا نَوَى، وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ آكَدُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ كَقَوْلِنَا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَتَقَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَامُ الْغَرَضِ فَقَدْ نَجَّزَ الْحُرِّيَّةَ وَبَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُ مِنْ التَّحْرِيرِ وَجْهُ اللَّهِ ﷿، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ؛ عَتَقَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَبَيَّنَ غَرَضَهُ الْفَاسِدَ مِنْ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعِتْقِ، وَلَوْ دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَقَالَ: يَا سَالِمُ فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الَّذِي أَجَابَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ خِطَابٌ وَالْمُتَكَلِّمُ أَوْلَى بِصَرْفِ الْخِطَابِ إلَيْهِ مِنْ السَّاكِتِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَا فِي الْقَضَاءِ أَمَّا مَرْزُوقٌ فَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ مَا عَنَاهُ.

وَأَمَّا سَالِمٌ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْتِقُ الَّذِي عَنَاهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ، وَلَوْ قَالَ: يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ عَتَقَ سَالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هَهُنَا إلَّا سَالِمٌ فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْت لَك نَفْسَك أَوْ وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك وَيَعْتِقُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْوَاهِبِ أَوْ الْبَائِعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ الْمَوْهُوبِ أَوْ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمَا وَهَهُنَا لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَمْلُوكًا لِنَفْسِهِ فَتَبْقَى الْهِبَةُ، وَالْبَيْعُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقِيقِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْهُوبِ وَالْمَبِيعِ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْت لَك نَفْسَك وَقَالَ: أَرَدْت وَهَبْت لَهُ عِتْقَهُ أَيْ: لَا أَعْتِقُهُ؛ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْهُوبِ وَهِبَةُ الْعِتْقِ اسْتِبْقَاءُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَوْهُوبِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷿؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ مَوْلَى فُلَانٍ أَوْ عَتِيقُ فُلَانٍ؛ أَنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُعْتَقُ فُلَانٍ وَلَا يَكُونُ مُعْتَقَ فُلَانٍ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ أَعْتَقَك فُلَانٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْتَقَك فُلَانٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فُلَانًا أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِيك وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَالَ لَك لِلْحَالِ: أَنْتَ حُرٌّ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَعْتِقُ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ ابْنَهُ؛ عَتَقَ عَلَيْهِ، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ جُعِلَ إعْتَاقًا شَرْعًا حَتَّى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِقَبُولِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ بِالْإِرْثِ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ إلَّا مَنْ لَهُ أَوْلَادٌ فَأَمَّا مَنْ لَا أَوْلَادَ لَهُ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ، أَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» حَقَّقَ الْإِعْتَاقَ عَقِيبَ الشِّرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الشِّرَاءُ نَفْسُهُ إعْتَاقًا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْتَاقُ عَقِيبَهُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَدَلَّ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ إثْبَاتًا وَإِزَالَةً وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْت السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْته وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُ فَقَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْتَقَهُ» ، وَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَتُعْتِقَهُ أَيْ: تُعْتِقَهُ بِالشِّرَاءِ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الشِّرَاءُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَنَعَمْ وَلَكِنَّ الْمُمْتَنَعَ إثْبَاتُ حُكْمٍ وَضِدِّهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا فِي زَمَانَيْنِ فَلَا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ فِي الْحَقِيقَةِ دَلَائِلُ وَأَعْلَامٌ عَلَى الْمَحْكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الشِّرَاءِ السَّابِقِ عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي؛ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ.

وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>