وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن المراد بالنفي {يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: ٣٣]: الحبس، يعني: يُحْبَسُون بحيث لا يخرجون، حبسًا مؤبَّدًا، ولكن هذا أيضًا بعيد من مدلول اللفظ؛ لأن {يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} النفي معناه الطرد والإبعاد، وليس معنى النفي الحبس أبدًا، ولكن قول أبي حنيفة وجيه فيما إذا لم يمكن نفيهم على وجه الكمال، مثل أن يَلْزَم من نفيهم عن البلاد أن يُكَوِّنُوا جماعة في البَرّ وعصابات يكون ضررهم أكثر من إيوائهم، ففي مثل هذه الحال يكون قول أبي حنيفة متوجهًا، وإن كان هو بعيدًا من اللفظ لكنه ما يمكن الحصول على المصلحة التي أراد الله سبحانه وتعالى بنفيهم من الأرض إلا بهذا العمل؛ إلا بالحبس حتى يُقْضَى على شرهم.
ما هو الدليل على هذه الأنواع من الحد؟ الدليل قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: ٣٣]، وكلمة {يُقَتَّلُوا} و {يُصَلَّبُوا} و {تُقَطَّعَ} التشديد هنا لفظًا دليلٌ على التشديد معنًى، التشديد اللفظي ما قال: أن يُقْتَلُوا أو يُصْلَبُوا أو تُقْطَع، بل قال:{يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ}؛ لأن جريمتهم عظيمة، فكان ينبغي المبالغة في تعذيبهم، وهذا يقتضي التنفير من هذا الفعل.
كلمة {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ}، {أَوْ يُنْفَوْا} فيها (أو) كُرِّرَت ثلاث مرات، فهل هي للتخير أو للتنويع؟