وقال بعض الأصحاب -أصحاب الإمام أحمد-: إنه لا يُقْبَل إلا ببينة؛ لأن قوله: كان له علي مئة درهم فقضيته، يتضمن إقرارًا ودعوى، ما هو الإقرار؟ فلان له علي مئة درهم، والدعوى فقضيتها فيكون مقرًّا ومدعيًا للقضاء، ومن ادعى فعليه البينة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي»(١)؛ وعلى هذا فلا يُقبل دعواه للقضاء إلا ببينة، وحجة المذهب كما أشرنا إليه قبل قليل أنه إنما أقرَّ على هذا الوجه، وهو إقرار لا يتناقض، فلا يلزمه سوى ما أقرَّ به، وفي الحقيقة أن القاضي عندما ينظر للخصمان بين يديه يمكنه أن يعرف هل الصواب اتباع ما قاله أصحاب المذهب، أو القول الثاني؟
قد يكون الذي أقرَّ وادعى القضاء إنسانٌ ثقة، والمقابل له بالعكس، فحينئذ يترجح قول المذهب بلا شك، وقد يكون الأمر بالعكس، ويكون المدعي الذي أقر له يكون إنسانًا ثقة، ويقول أبدًا ما قضيت، ويكون الذي أقر وادعى القضاء إنسانًا ليس بثقة، وحينئذ يتوجه القول بالقول الثاني.
الحاصل أن هذه المسائل؛ يعني الخلاف في هذه الأمور تعطي القاضي اتساعًا في مجال القضاء؛ لأنه لا يخرج عن الحق ( ... )، ولو أنه لوحظ هذا الخلاف، وقيل: إن كل قول يتنزل على حال لكان له وجه، لو قيل: إن القول بأنه يكون مدعيًا للقضاء مقرًّا بالدين فلا يُقْبَل إلا ببينة في حال كون المقر أيش؟ ليس بثقة، والقول بأنه يقبل منه دعوى القضاء إذا كان ثقة، وجمع الإنسان بين القولين على هذا الوجه لم يكن بعيدًا.
يقول: إلا أن تكون بينة أو يعترض بسبب الحق إذا كان بينة، بينة بأيش؟ بما أقرَّ به؛ قال: له عليَّ من الدرهم، وقد ثبت ذلك ببينة ( ... ) القضاء فإنه لا يُقبل منه دعوى القضاء حتى يأتي ببينة؛ لأن الحق دونما ثبت بمجرد إقراره، بل ثبت ببينة، وما ثبت ببينة لا يُرفع إلا بها، وهذا واضح كذلك.