وكذلك أيضًا في قصة السرية الذين استضافوا قومًا فلم يضيفوهم فتنحوا ناحية، فقدر الله عز وجل أن يلدغ زعيم هؤلاء القوم الذين أبوا أن يضيفوا السرية، فلما لدغ؛ لدغته حية قالوا: من يرقي؟ قال بعضهم لبعض: شوفوا الجماعة الذين نزلوا عليكم ضيوفًا ولم تضيفوهم لعل فيهم قارئًا، فذهبوا إليهم، فقالوا: نعم، فينا من يقرأ، لكن ما نقرأ عليكم إلا بشيء؛ إلا بِجُعْل، فجعلوا لهم قطيعًا من الغنم، جاء الله بالضيافة غصبًا عليهم -الحمد لله- جعلوا لهم قطيعًا من الغنم، فذهب أحدهم يقرأ على هذا اللديغ سورة الفاتحة فقط كرَّرها، فقام اللديغ كأنما نشط من عقال، والذي لدغته حية، فلما غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إليه وأخبروه قال للقارئ:«وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»(٢٥).
هذا طِبٌّ نبوي، لكنه معنوي بالقراءة، وما أكثر الذين نشاهدهم ونسمع بهم يؤثرون تأثيرًا بالغًا في المرضى أشد من تأثير الطب الذي يدرك بالتجارب.
فيه أيضًا قلنا: إن مرض القلوب له دواء نبوي، والدواء النبوي نوعان، وله دواء مادي بحت يعرف بالتجارب، وهو ما يكون على يد الأطباء، سواء درسوا في المدارس الراقية وعرفوا أو أخذوا بالتجارب؛ لأنه يوجد أناس من عامة الناس يجرون تجارب على بعض الأعشاب ويحصل منها فائدة، ويكونون بذلك أطباء بدون دراسة؛ لأن هذا يدرك بالتجارب.
فقول القائل:(عافني فيمن عافيت) يسأل الله العافية فيمن عافاه الله من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، وأمراض القلوب قلنا: إن طبها يكون بماذا؟ بالقرآن، فيه الشفاء لأمراض القلوب من كل داء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}[يونس: ٥٧]{شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} حتى من صدور الكفار؛ ولهذا قال بعدها:{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}، فجعل الشفاء عامًّا، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصًّا.