يقول -رحمه الله-: (وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة)، هذا أيضًا من خصائص الجمعة؛ أنها تحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد، أما غير الجمعة فإنها تصلى في الدور.
أيش في الدور؟ الدور: الأحياء، ففي حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب (٢٠).
في الدور يعني؟
الأحياء، ولهذا يقال: دار بني فلان؛ أي: حيهم، ما سوى الجمعة يصلى في الأحياء، كل حي يصلي في مسجده، الجمعة يجب أن تكون في مسجد واحد؛ لأنها لو فرقت في مساجد الأحياء لانتفى المعنى الذي من أجله شرعت الجمعة، ولتفرق الناس، ولصار كل قوم ينفضُّون عن موعظة تختلف عن موعظة الآخر، فيتفرق البلد، ولا يشربون من نهر واحد، واضح؟
وأيضًا لو تعددت الجمع لفات المقصود الأعظم وهو جمع المسلمين وائتلافهم؛ لأنهم لو تُركوا، كل قوم يقيمون الجمعة في حيهم، لو تُركوا كذلك ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، فهذه من حكم الجمعة، أن يجتمع الناس في مكان واحد، وعلى إمام واحد، ويصدرون عن رأي واحد، ويشربون من نهر واحد.
ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا في زمن الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين، وإنما أقيمت في القرن الثالث بعد مئتين وست وسبعين تقريبًا، فكان المسلمون إلى هذا الزمن يصلون على إمام واحد.
حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة، فقال: ما علمت أنه صُلى في المسلمين أكثر من جمعة واحدة.
الإمام أحمد توفي سنة مئتين وإحدى وأربعين، إلى هذا الحد لم تقم الجمعة في أكثر من موضع من البلد.
أقيمت في بغداد أول ما أقيمت لما صار البلد منشقا، فيه نهر بين الشرقي منه والغربي منه، فجعلوا فيها جمعتين؛ لأنه يشق أن يعْبُر الناس النهر كل أسبوع، فجعلت جمعتين.