وعند التأمل قد لا يكون في الآيتين دليل على ما اشترطه الفقهاء، كيف ذلك؟ لأن الله قال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ}، أي: صاحبي عدل، ولا يلزم من كونهما صاحبي عدل أن يتصفا بالعدالة المطلقة، بل يمكن أن نقول: إن معنى الآية: أشهدوا ذوي عدل في شهادته، فمتى كان ذا عدل في الشهادة فإنه يُقبل، ودينه لمن؟ دينه لله عز وجل؛ ولهذا لو كان الإنسان مخالفًا للعدالة في الكذب فإننا لا نقبله بلا شك، لماذا؟
لأن الشهادة تعتمد اعتمادًا كليًّا على الصِّدْق في النقل، وإذا كان هذا الإنسان كاذبًا معروفًا بالكذب فهذا لا نقبل شهادته، لماذا؟ لأن هذا الوصف -وهو الكذب- مُخلٌّ بأصل الشهادة، فإن الشهادة مبنية على الصدق في الخبر، وهي خبر في الواقع، فإذا كان كاذبًا فلا شك أن هذا يخل بشهادته ولا نقبلها، أما لو كان الرجل يحلق لحيته، لكن نعلم أنه في باب الأخبار لا يمكن أن يكذب، نعرفه، صدوق، قد ماشيناه وتتبعنا أخباره، فكيف نقول: إننا نرد خبره؟ !
رجل يغتاب الناس، والغيبة كما عرفنا أولًا من كبائر الذنوب تخدش العدالة، ولو مرة واحدة، لكن مع كونه يغتاب الناس هو صدوق الخبر، لا يمكن يكذب، هل نرد شهادته؟ على المذهب نرد شهادته، لكن على القول الراجح: لا، وحينئذٍ نقول:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: في الشهادة.
على أنه يمكن أن يقال أيضًا وجه آخر رد به من رد على كلام الفقهاء، قال: إن الله يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، هذا في ابتداء الشهادة والتحمُّل، لا تختر إلا عدلًا، هذا عند التحمل، لكن عند الأداء نقبل كل من قامت القرينة على صدقه، وفرق بين التحمل الذي يريد أن يختار شهودًا يعتمد عليهم وبين إنسان أتى بشهود فيما بعد ليُثبت بهم الحق، فيفرِّق هؤلاء العلماء بين أيش؟ التحمل والأداء؛ فالتحمل لا بد أن نختار ذوي العدل لئلا يقع إشكال في المستقبل، أو رد للشهادة، لكن عند الأداء هذا يُنظر في القضية المعينة.