وَقَوْلُهُمْ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّارِعَ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فَأَبَاحَهُ،
ــ
[رد المحتار]
«وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ لَا لِرِيبَةٍ وَلَا كِبْرٍ» ، وَكَذَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَكْثَرَ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقُ» ، فَالْمُرَادُ بِالْحَلَالِ مَا لَيْسَ فِعْلُهُ بِلَازِمٍ الشَّامِلُ لِلْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ كَمَا قَالَهُ الشُّمُنِّيُّ بَحْرٌ مُلَخَّصًا قُلْت: لَكِنْ حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ كَوْنَهُ مَبْغُوضًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَلَالًا، فَإِنَّ الْحَلَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الْمَكْرُوهَ وَهُوَ مَبْغُوضٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ بِالْحَلَالِ مَا لَا يَتَرَجَّحُ تَرْكُهُ عَلَى فِعْلِهِ؛ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُؤَبِّدٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي، وَيَأْتِي بَعْدَهُ تَأْيِيدُهُ أَيْضًا فَافْهَمْ (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُمْ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْفَتْحِ: إنَّ قَوْلَهُمْ بِإِبَاحَتِهِ وَإِبْطَالِهِمْ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَا يُبَاحُ إلَّا لِكِبَرٍ أَوْ رِيبَةٍ «بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ» وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَافٌ لِقَوْلِهِمْ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، وَلِحَدِيثِ «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ» وَأَجَابَ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ وَتُرِكَ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَصَارَ الْحِلُّ هُوَ الْمَشْرُوعُ؛ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ الْحَظْرُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، فَهَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَحْظُورٌ؟ فَالْحَقُّ إبَاحَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْهَا لِلْأَدِلَّةِ الْمَارَّةِ. اهـ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ فَإِنَّ الْحَظْرَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ قَدْ زَالَ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ حَظْرٌ أَصْلًا إلَّا لِعَارِضٍ خَارِجِيٍّ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْهِدَايَةِ بِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ، وَأَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي الْحَظْرَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ اهـ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَمَحْظُورٌ مِنْ جِهَتَيْنِ وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا لِاخْتِلَافِ الْحَيْثِيَّةِ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَكَوْنُ الْأَصْلِ فِيهِ الْحَظْرُ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ هُوَ بَاقٍ إلَى الْآنَ؛ بِخِلَافِ الْحَظْرِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ انْتِفَاعًا بِجُزْءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَرَمِ وَاطِّلَاعًا عَلَى الْعَوْرَاتِ قَدْ زَالَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّوَالُدِ وَبَقَاءِ الْعَالَمِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ مَحْظُورٌ إلَّا لِعَارِضٍ يُبِيحُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، فَإِذَا كَانَ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَاجَةٌ إلَى الْخَلَاصِ بَلْ يَكُونُ حُمْقًا وَسَفَاهَةَ رَأْيٍ وَمُجَرَّدَ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَإِخْلَاصِ الْإِيذَاءِ بِهَا وَبِأَهْلِهَا وَأَوْلَادِهَا، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ سَبَبَهُ الْحَاجَةُ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ تَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَعُرُوضِ الْبَغْضَاءِ الْمُوجِبَةِ عَدَمَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَتْ الْحَاجَةُ مُخْتَصَّةً بِالْكِبْرِ وَالرِّيبَةِ كَمَا قِيلَ، بَلْ هِيَ أَعَمُّ كَمَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتْحِ، فَحَيْثُ تَجَرَّدَ عَنْ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ لَهُ شَرْعًا يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الْحَظْرِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: ٣٤] أَيْ لَا تَطْلُبُوا الْفِرَاقَ، وَعَلَيْهِ حَدِيثُ «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيُحْمَلُ لَفْظُ الْمُبَاحِ عَلَى مَا أُبِيحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَعْنِي أَوْقَاتِ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُبِيحَةِ اهـ وَإِذَا وُجِدَتْ الْحَاجَةُ الْمَذْكُورَةُ أُبِيحَ وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَوْنًا لَهُمْ عَنْ الْعَبَثِ وَالْإِيذَاءِ بِلَا سَبَبٍ، فَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ إنَّ الْحَقَّ إبَاحَتُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنْهَا، إنْ أَرَادَ بِالْخَلَاصِ مِنْهَا الْخَلَاصَ بِلَا سَبَبٍ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِمْ إنَّ إبَاحَتَهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ، فَلَمْ يُبِيحُوهُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ إرَادَةِ الْخَلَاصِ وَإِنْ أَرَادَ الْخَلَاصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا إنَّ مَا صَحَّحَهُ فِي الْفَتْحِ اخْتِيَارٌ لِلْقَوْلِ الضَّعِيفِ وَلَيْسَ الْمَذْهَبُ عَنْ عُلَمَائِنَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّعِيفَ هُوَ عَدَمُ إبَاحَتِهِ إلَّا لِكِبَرٍ أَوْ رِيبَةٍ. وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ فِي الْفَتْحِ عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِهِمْ الْحَاجَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute