بِلَا قَيْدِ سُكْرٍ (أَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذٍ) مَا بِهِ يُفْتَى (طَوْعًا) عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِكَوْنِهِ فِي دَارِنَا، لِمَا قَالُوا:
ــ
[رد المحتار]
غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ فَلَيْسَ بِخَمْرٍ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِقَوْلِهِمَا أَخَذَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ خَانِيَّةٌ وَلَوْ خُلِطَ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا حُدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا يُحَدُّ إلَّا إذَا سَكِرَ نَهْرٌ.
مَطْلَبٌ فِي نَجَاسَةِ الْعَرَقِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ بِشُرْبِهِ وَفِي أَشْرِبَةِ الْقُهُسْتَانِيِّ: مَنْ قَالَ إنَّهَا لَمْ تَبْقَ خَمْرًا بِالطَّبْخِ لَمْ يُحَدَّ شَارِبُهَا إلَّا إذَا سَكِرَ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ شَارِبُ الْعَرَقِ مَا لَمْ يَسْكَرْ. وَمَنْ قَالَ إنَّهَا بَقِيَتْ خَمْرًا فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ بِالْعَكْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى. اهـ. قُلْت: عُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّ الْعَرَقَ لَمْ يَخْرُجْ بِالطَّبْخِ وَالتَّصْعِيدِ عَنْ كَوْنِهِ خَمْرًا فَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ. وَأَمَّا إذَا سَكِرَ مِنْهُ فَلَا شُبْهَةَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي بِنَجَاسَتِهِ أَيْضًا فَلَا يَغُرَّنَّك مَا أَشَاعَهُ فِي زَمَانِنَا بَعْضُ الْفَسَقَةِ الْمُولَعِينَ بِشُرْبِهِ مِنْ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَلَالٌ، كَأَنَّهُ قَالَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الطَّابَقِ: أَيْ الْغِطَاءِ مِنْ زُجَاجٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا لَوْ أَخْرَقَتْ نَجَاسَةٌ فِي بَيْتٍ فَأَصَابَ مَاءُ الطَّابَقِ ثَوْبَ إنْسَانٍ تَنَجَّسَ قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا، وَمِثْلُهُ حَمَّامٌ فِيهَا نَجَاسَاتٌ فَعَرِقَ حِيطَانُهَا وَكُوَّاتُهَا وَتَقَاطَرَ، فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِيهَا عَدَمُ النَّجَاسَةِ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ.
وَالْقِيَاسُ النَّجَاسَةُ لِانْعِقَادِهِ مِنْ عَيْنِ النَّجَاسَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَقَ الْمُسْتَقْطِرَ مِنْ الْخَمْرِ هُوَ عَيْنُ الْخَمْرِ تَتَصَاعَدُ مَعَ الدُّخَانِ وَتَقْطُرُ مِنْ الطَّابَقِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهَا إلَّا أَجْزَاؤُهَا التُّرَابِيَّةُ وَلِذَا يَفْعَلُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْإِسْكَارِ أَضْعَافَ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرُ الْخَمْرِ، بِخِلَافِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ أَرْضِ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مَاءٌ أَصْلُهُ طَاهِرٌ خَالَطَ نَجَاسَةً مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْمُتَصَاعِدَ نَفْسُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي طَهَارَتِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْعَرَقِ الصَّاعِدِ مِنْ نَفْسِ الْخَمْرِ النَّجِسَةِ الْعَيْنِ وَلَا يَطْهُرُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ طَهَارَةُ الْبَوْلِ، وَنَحْوُهُ إذَا اُسْتُقْطِرَ فِي إنَاءٍ وَلَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ.
وَقَدْ طُلِبَ مِنِّي أَنْ أَعْمَلَ بِذَلِكَ رِسَالَةً وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، (قَوْلُهُ بِلَا قَيْدِ سُكْرٍ) تَصْرِيحٌ بِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ وَلَوْ قَطْرَةً إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَاقِي الْأَشْرِبَةِ وَإِلَّا فَلَا يُحَدُّ بِالْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الرَّائِحَةِ.
وَمَنْ شَرِبَ قَطْرَةَ خَمْرٍ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَتُهَا عَادَةً، نَعَمْ يُمْكِنُ الْحَدُّ بِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآتِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالشُّرْبِ لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ أَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذٍ مَا) أَيْ مِنْ أَيِّ شَرَابٍ كَانَ غَيْرَ خَمْرٍ إذَا شَرِبَهُ لَا يُحَدُّ بِهِ إلَّا إذَا سَكِرَ بِهِ، وَعَبَّرَ بِمَا الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْمِيمِ إشَارَةً إلَى خِلَافِ الزَّيْلَعِيِّ حَيْثُ خَصَّهُ بِالْأَنْبِذَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَهُوَ نَجَسٌ أَيْضًا قَالُوا: وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ نَأْخُذُ.
وَفِي طَلَاقِ الْبَزَّازِيَّةِ: لَوْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ الْمُخْتَارُ فِي زَمَانِنَا لُزُومُ الْحَدِّ اهـ نَهْرٌ قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ تَبِعَ فِيهِ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ، لَكِنَّهُ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ ذَكَرَ تَصْحِيحَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا مَشَى عَلَيْهِ هُنَا غَيْرُ الْمُخْتَارِ كَمَا فِي الْفَتْحِ. وَقَدْ حَقَّقَ فِي الْفَتْحِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ قَلِيلِهِ أَنَّهُ يُحَدُّ بِهِ بِلَا إسْكَارٍ كَالْخَمْرِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ عَلَى الْحَدِّ بِقَلِيلِهِ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» " وَبِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَزَيْدٍ أَسَدٌ وَالْمُرَادُ بِهِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِلَا إسْكَارٍ، وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ أَوْجَبَ الْمَصِيرَ إلَيْهِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ بِقَلِيلِهِ سِوَى الْقِيَاسِ وَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِهِ، نَعَمْ الثَّابِتُ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهُ، وَقَدْ أَطَالَ فِي ذَلِكَ إطَالَةً حَسَنَةً، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَيَأْتِي حُكْمُ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشِ (قَوْلُهُ بِكَوْنِهِ فِي دَارِنَا) أَيْ نَاشِئًا فِيهَا (قَوْلُهُ لِمَا قَالُوا إلَخْ) تَعْلِيلٌ لِتَفْسِيرِ الْعِلْمِ الْحُكْمِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute