للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ قَامَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَوَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِهَا حَتَّى خَتَمَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَلَّمَ بَكَى وَنَاجَى رَبَّهُ وَقَالَ: إلَهِي مَا عَبَدَك هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ حَقَّ عِبَادَتِك لَكِنْ عَرَفَك حَقَّ مَعْرِفَتِك، فَهَبْ نُقْصَانَ خِدْمَتِهِ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ، فَهَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ عَرَفْتَنَا حَقَّ الْمَعْرِفَةِ وَخَدَمْتَنَا فَأَحْسَنْتَ الْخِدْمَةَ، قَدْ غَفَرْنَا لَك وَلِمَنْ اتَّبَعَك مِمَّنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

وَقِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ: بِمَ بَلَغْت مَا بَلَغْت؟ قَالَ: مَا بَخِلْتُ بِالْإِفَادَةِ، وَمَا اسْتَنْكَفْتُ عَنْ الِاسْتِفَادَةِ. قَالَ مُسَافِرُ بْنُ كِدَامٍ: مَنْ جَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ رَجَوْت أَنْ لَا يَخَافَ. وَقَالَ فِيهِ:

حَسْبِي مِنْ الْخَيْرَاتِ مَا أَعْدَدْته ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ

دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى ... ثُمَّ اعْتِقَادِي مَذْهَبَ النُّعْمَانِ

وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ آدَمَ افْتَخَرَ بِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي اسْمُهُ نُعْمَانُ وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي» وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ يَفْتَخِرُونَ بِي وَأَنَا أَفْتَخِرُ بِأَبِي حَنِيفَةَ، مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي» كَذَا فِي التَّقْدُمَةِ شَرْحِ مُقَدِّمَةِ أَبِي اللَّيْثِ. قَالَ فِي الضِّيَاءِ الْمَعْنَوِيِّ:

ــ

[رد المحتار]

وَأَجَابَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّرَاوُحِ؛ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ نَصْبِ الْقَدَمَيْنِ، وَتَفْسِيرُ التَّرَاوُحِ: أَنْ يَعْتَمِدَ الْمُصَلِّي عَلَى قَدَمٍ مَرَّةً وَعَلَى الْأُخْرَى مَرَّةً أُخْرَى: أَيْ مَعَ وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ رَفْعِ إحْدَاهُمَا لَكِنْ يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ وَوَضَعَ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِهَا إلَخْ. أَفَادَهُ ط. وَقَدْ يُقَالُ: لِلْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَقْصِدٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الْكَرَاهَةِ عَنْهُ كَمَا قَالُوا يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَاسِرًا عَنْ رَأْسِهِ، لَكِنْ إذَا قَصَدَ التَّذَلُّلَ فَلَا كَرَاهَةَ. ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَجَابَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُجَاهَدَةً لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ غَرَضُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ بِذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَخْتَلَّ مِنْهُ خُشُوعُهُ مَانِعًا لِلْكَرَاهَةِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: حَقَّ عِبَادَتِك) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ: أَيْ عِبَادَتَك الْحَقَّةَ الَّتِي تَلِيقُ بِجَلَالِك بَلْ هِيَ بِقَدْرِ مَا فِي وُسْعِهِ ط.

(قَوْلُهُ: لَكِنْ عَرَفَك) اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ عَدَمَ عِبَادَتِهِ حَقَّ الْعِبَادَةِ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِصِفَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كِبْرِيَائِهِ وَمَجْدِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ دَوَامَ مُشَاهَدَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةَ كُنْهِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُسْتَحِيلَاتِ ط.

(قَوْلُهُ: فَهَبْ) مِنْ الْهِبَةِ: وَهِيَ الْعَطِيَّةُ، يَقُولُ وَهَبْت لَهُ: أَيْ أَعْطِ نُقْصَانَ الْخِدْمَةِ لِكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ أَيْ شَفَعَ هَذَا بِهَذَا كَمَا فِي هَبْ مُسِيئَنَا لِمُحْسِنِنَا.

(قَوْلُهُ: وَلِمَنْ اتَّبَعَك) أَيْ فِي الْخِدْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ أَوْ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُك مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَمْ يَزِغْ عَنْهَا لَا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ.

(قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ التَّامَّةِ أَوْ بِاتَّبَعَك

(قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ) ذَكَرَ فِي التَّعْلِيمِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: بِمَ أَدْرَكْت الْعِلْمَ؟ قَالَ: إنَّمَا أَدْرَكْت الْعِلْمَ بِالْجُهْدِ وَالشُّكْرِ، وَكُلَّمَا فَهِمْت وَوَقَفْت عَلَى فِقْهٍ وَحِكْمَةٍ قُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ فَازْدَادَ عِلْمِي ط.

(قَوْلُهُ: وَمَا اسْتَنْكَفْت) أَيْ أَنِفْت وَامْتَنَعْت.

(قَوْلُهُ: مُسَافِرُ بْنُ كِدَامٍ) الَّذِي رَأَيْته فِي مَوَاضِعَ كَتَعَدُّدِهِ: مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا وَكِدَامٌ بِالدَّالِ.

(قَوْلُهُ: رَجَوْت أَنْ لَا يَخَافَ) لِأَنَّهُ قَلَّدَ إمَامًا عَالِمًا صَحِيحَ الِاجْتِهَادِ سَالِمَ الِاعْتِقَادِ، وَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقَى اللَّهَ سَالِمًا، وَتَمَامُ كَلَامِ مِسْعَرٍ: وَأَنْ لَا يَكُونَ فَرَّطَ فِي الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ) أَيْ مِسْعَرٌ، لَكِنْ ذَكَرَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْغَزْنَوِيَّةِ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَأَنَّهُ أَنْشَدَهُمَا أَبُو يُوسُفَ أَفَادَهُ ط.

(قَوْلُهُ: حَسْبِي) أَيْ كَافِي مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ مَا أَعْدَدْته: أَيْ هَيَّأْته، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحَسْبِي أَوْ بِأَعْدَدْته أَوْ بِرِضَا وَفِي لِلسَّبَبِيَّةِ وَدِينُ بَدَلٌ مِنْ مَا.

(قَوْلُهُ: وَأَنَا أَفْتَخِرُ إلَخْ) الْفَخْرُ وَالِافْتِخَارُ التَّمَدُّحُ بِالْخِصَالِ: أَيْ يَذْكُرُ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي شَيَّدَ بُنْيَانَ الدِّينِ بَعْدَ انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ، وَتَبِعَهُ مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأُمَّةِ، وَسَبَقَ فِي الِاجْتِهَادِ وَتَدْوِينِ الْفِقْهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَأَعَانَهُمْ بِأَصْحَابِهِ وَفَوَائِدِهِ الْجَمَّةِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْمُهِمَّةِ.

(قَوْلُهُ: الضِّيَاءِ الْمَعْنَوِيِّ)

<<  <  ج: ص:  >  >>