وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ إنَّهُ مَوْضُوعٌ تَعَصُّبٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ بِسَنَدِهِ لِسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ " لَوْ كَانَ فِي أُمَّتَيْ مُوسَى وَعِيسَى مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَا تَهَوَّدُوا وَلَمَا تَنَصَّرُوا "
ــ
[رد المحتار]
هُوَ شَرْحُ مُقَدِّمَةِ الْغَزْنَوِيِّ لِلْقَاضِي أَبِي الْبَقَاءِ بْنِ الضِّيَاءِ الْمَكِّيِّ.
(قَوْلُهُ: وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ) أَيْ نَاقِلًا عَنْ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ رُوِيَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ) بَسَطَهَا الْعَلَّامَةُ طَاشْ كُبْرَى، فَيُشْعِرُ بِأَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فَيُقْبَلُ؛ إذْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ فِي الْإِمَامِ فَإِنَّهُ سِرَاجٌ يُسْتَضَاءُ بِنُورِ عِلْمِهِ وَيُهْتَدَى بِثَاقِبِ فَهْمِهِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ قَدْ أَقَرَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى عَدِّهِ هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ وَالْحَافِظُ السُّيُوطِيّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ وَالْحَافِظُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إلَيْهِ رِئَاسَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَمَنِهِ الشَّيْخُ قَاسِمٌ الْحَنَفِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُورِدْ شَيْئًا مِنْهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي مَنَاقِبِ هَذَا الْإِمَامِ كَالطَّحَاوِيِّ وَصَاحِبِ طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ مُحْيِي الدِّينِ الْقُرَشِيِّ وَآخَرِينَ مُتْقِنِينَ ثِقَاتٍ أَثْبَاتٍ نُقَّادٍ لَهُمْ اطِّلَاعٌ كَثِيرٌ. اهـ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ: وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَحْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرَامَاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسِيرَتِهِ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى فَضْلِهِ بِخَبَرٍ مَوْضُوعٍ.
وَقَالَ: وَمِمَّا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَظِيمِ شَأْنِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ» وَمِنْ ثَمَّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيُّ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُحْمَلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ تِلْكَ السَّنَةِ. اهـ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُشِيرُ إلَى فَضْلِهِ: مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالشِّيرَازِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بِلَفْظِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَيْسٍ «لَا تَنَالُهُ الْعَرَبُ لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفَارِسَ الْبِلَادَ الْمَعْرُوفَةَ، بَلْ جِنْسٌ مِنْ الْعَجَمِ وَهُمْ الْفُرْسُ؛ لِخَبَرِ الدَّيْلَمِيِّ «خَيْرُ الْعَجَمِ فَارِسُ» وَقَدْ كَانَ جَدُّ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ فَارِسَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَصْلٌ صَحِيحٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْإِشَارَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ وَبِهِ يُسْتَغْنَى عَمَّا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاقِبِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ دِرَايَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ فِي سَنَدِهِ كَذَّابِينَ وَوَضَّاعِينَ اهـ مُلَخَّصًا.
وَفِي حَاشِيَةِ الشبراملسي عَلَى الْمَوَاهِبِ عَنْ الْعَلَّامَةِ الشَّامِيِّ تِلْمِيذِ الْحَافِظِ السُّيُوطِيّ قَالَ: مَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَهُ أَحَدٌ. اهـ.
(قَوْلُهُ: التُّسْتَرِيِّ) إمَامٌ عَظِيمٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كَانَ يَقُولُ: إنِّي لَأَعْهَدُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ وَإِنِّي لَأَرْعَى أَوْلَادِي مِنْ هَذَا الْوَقْتِ إلَى أَنْ أَخْرَجَهُمْ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الشُّهُودِ وَالظُّهُورِ.
(قَوْلُهُ: لَمَا تَهَوَّدُوا إلَخْ) أَيْ لَمَا دَامُوا عَلَى دِينِهِمْ الْبَاطِلِ وَاعْتِقَادِهِمْ الْعَاطِلِ؛ وَلَمْ يَقْبَلُوا مَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهِمْ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ الدَّسَائِسِ فَأَعْمَوْهُمْ عَمَّا