وَمَنَاقِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَصَنَّفَ فِيهَا سَبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ مُجَلَّدَيْنِ كَبِيرَيْنِ، وَسَمَّاهُ الِانْتِصَارَ لِإِمَامِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ
ــ
[رد المحتار]
جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا مِنْ النَّفَائِسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ إلَّا لِعَقْلِهِمْ الْفَاسِدِ، وَرَأْيِهِمْ الْكَاسِدِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مِثْلُهُ غَزِيرَ الْعِلْمِ، ثَاقِبَ الْفَهْمِ، قَائِمًا بِالصِّدْقِ، عَارِفًا بِالْحَقِّ، لَرَدَّ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ، قَبْلَ غُلُوِّهِمْ وَتَمَكُّنِ الشَّبَهِ فِي عُقُولِهِمْ، فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَكُونُ لِكَلَامِهِ أَقْبَلَ، فَإِنَّ الْجِنْسَ إلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ، فَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ عَلَى نَبِيِّنَا الْمُكَرَّمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَمَنَاقِبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى) هَذَا مِنْ مُشْكِلِ التَّرَاكِيبِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ فِي الْأَكْثَرِيَّةِ عَلَى الْإِحْصَاءِ وَلَا مَعْنَى لَهُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ قَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِإِشْكَالِهَا، وَوُجِّهَ بِأَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَيَّنْتهَا فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالْفَوَائِدِ الْعَجِيبَةِ فِي إعْرَابِ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ، أَحْسَنُهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّفْضِيلَ بَلْ الْمُرَادُ الْبُعْدُ عَنْ الْكَثْرَةِ، فَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِمَعْنَى تَجَاوَزَ وَبَايَنَ بِلَا تَفْضِيلٍ.
(قَوْلُهُ: سَبْطُ) قِيلَ الْأَسْبَاطُ الْأَوْلَادُ خَاصَّةً، وَقِيلَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ، وَقِيلَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ نِهَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الثَّالِثِ.
(قَوْلُهُ: وَسَمَّاهُ الِانْتِصَارَ) إنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا شَاعَتْ فَضَائِلُهُ وَعَمَّتْ الْخَافِقِينَ فَوَاضِلُهُ، جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ الْقَدِيمَةُ مِنْ إطْلَاقِ أَلْسِنَةِ الْحَاسِدِينَ فِيهِ حَتَّى طَعَنُوا فِي اجْتِهَادِهِ وَعَقِيدَتِهِ بِمَا هُوَ مُبَرَّأٌ مِنْهُ قَطْعًا لِقَصْدِ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، كَمَا تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُهُمْ فِي أَحْمَدَ، بَلْ قَدْ تَكَلَّمَتْ فِرْقَةٌ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَفِرْقَةٌ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَفِرْقَةٌ كَفَّرَتْ كُلَّ الصَّحَابَةِ:
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنْ النَّاسِ سَالِمًا ... وَلِلنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ
وَمِمَّنْ انْتَصَرَ لِلْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعَلَّامَةُ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ تَبْيِيضَ الصَّحِيفَةِ وَالْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانَ وَالْعَلَّامَةُ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي الْحَنْبَلِيُّ فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ سَمَّاهُ تَنْوِيرَ الصَّحِيفَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَتَكَلَّمْ فِي أَبِي حَنِيفَةَ بِسُوءٍ وَلَا تُصَدِّقَنَّ أَحَدًا يُسِيءُ الْقَوْلَ فِيهِ، فَإِنِّي وَاَللَّهِ مَا رَأَيْت أَفْضَلَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أَفْقَهَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَغْتَرُّ أَحَدٌ بِكَلَامِ الْخَطِيبِ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْعَصَبِيَّةَ الزَّائِدَةَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَتَحَامَلَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَصَنَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ السَّهْمَ الْمُصِيبَ فِي كَيْدِ الْخَطِيبِ.
وَأَمَّا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَإِنَّهُ تَابَعَ الْخَطِيبَ وَقَدْ عَجِبَ سَبْطُهُ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي مِرْآةِ الزَّمَانِ: وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْ الْخَطِيبِ فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ الْجَدِّ كَيْفَ سَلَكَ أُسْلُوبَهُ وَجَاءَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ. قَالَ: وَمِنْ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحِلْيَةِ وَذَكَرَ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ اهـ.
وَمِمَّنْ انْتَصَرَ لَهُ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ بِمَا يَتَعَيَّنُ مُطَالَعَتُهُ قَالَ فِي الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ: وَبِفَرْضِ صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ مِنْ الْقَدْحِ عَنْ قَائِلِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَقْرَانِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُقَلِّدٌ لِمَا قَالَهُ أَوْ كَتَبَهُ أَعْدَاؤُهُ أَوْ مِنْ أَقْرَانِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَقْرَانِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الذَّهَبِيُّ وَالْعَسْقَلَانِيُّ قَالَا وَلَا سِيَّمَا إذَا لَاحَ أَنَّهُ لِعَدَاوَةٍ أَوْ لِمَذْهَبٍ؛ إذْ الْحَسَدُ لَا يَنْجُو مِنْهُ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَصْرًا سَلِمَ أَهْلُهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عَصْرَ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ. يَنْبَغِي لَك أَيُّهَا الْمُسْتَرْشِدُ أَنْ تَسْلُكَ سَبِيلَ الْأَدَبِ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ وَلَا تَنْظُرَ إلَى كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ إلَّا إذَا أَتَى بِبُرْهَانٍ وَاضِحٍ.
ثُمَّ إنْ قَدَرْت عَلَى التَّأْوِيلِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ فَدُونَك، وَإِلَّا فَاضْرِبْ صَفْحًا، فَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أَنْ تُصْغِيَ إلَى مَا اتَّفَقَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ، أَوْ بَيْنَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، أَوْ بَيْنَ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ وَالنَّسَائِيُّ، أَوْ بَيْنَ أَحْمَدَ