مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ وَأَلَّفَهُ وَفَرَّعَ أَحْكَامَهُ عَلَى أُصُولِهِ الْعِظَامِ، إلَى يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامِ. وَقَدْ اتَّبَعَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْكِرَامِ، مِمَّنْ اتَّصَفَ بِثَبَاتِ الْمُجَاهَدَةِ، وَرَكَضَ فِي مَيْدَانِ الْمُشَاهَدَةِ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيّ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَدَاوُد الطَّائِيِّ،
ــ
[رد المحتار]
تَنْبِيهٌ]
وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ. الْحَدِيثَ " قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِّ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ فَعَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ مَنْ ابْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَمَامُهُ فِي آخِرِ عُمْدَةِ الْمُرِيدِ لِلَّقَانِيِّ.
(قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ الْحَشْرِ) تَنَازَعَ فِيهِ كُلُّ مَنْ دَوَّنَ وَأَلَّفَ وَفَرَّعَ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ اتَّبَعَهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ: أَيْ كَيْفَ لَا يَخْتَصُّ وَقَدْ اتَّبَعَهُ إلَخْ وَالْإِتْبَاعُ تَقْلِيدُهُ فِيمَا قَالَهُ ط.
(قَوْلُهُ: مِنْ الْأَوْلِيَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِكَثِيرٍ لِلْبَيَانِ، وَالْوَلِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَنْ تَوَالَتْ طَاعَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا عِصْيَانٌ، وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَهُوَ مَنْ يَتَوَالَى عَلَيْهِ إحْسَانُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْضَالُهُ تَعْرِيفَاتُ السَّيِّدِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْوَصْفَيْنِ حَتَّى يَكُونَ وَلِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا كَمَا يُشْتَرَطُ فِي النَّبِيِّ كَوْنُهُ مَعْصُومًا كَمَا فِي رِسَالَةِ الْإِمَامِ الْقُشَيْرِيِّ.
(قَوْلُهُ: مِمَّنْ اتَّصَفَ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ حَالٌ.
(قَوْلُهُ: بِثَبَاتِ الْمُجَاهَدَةِ) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا: أَيْ الْمُجَاهَدَةِ الثَّابِتَةِ أَيْ الدَّائِمَةِ. وَالْمُجَاهَدَةُ لُغَةً: الْمُحَارَبَةُ. وَفِي الشَّرْعِ: مُحَارَبَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ بِتَحَمُّلِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ تَعْرِيفَاتٌ، وَقَدْ وَرَدَ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ الْأَكْبَرِ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَزَاةٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ وَقَدِمْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ» . اهـ.
(قَوْلُهُ: الْمُشَاهَدَةِ) أَيْ مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ تَعَالَى بِآثَارِهِ.
(قَوْلُهُ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ) بْنِ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيّ. كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، خَرَجَ مُتَصَيِّدًا فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ: أَلِهَذَا خُلِقْت؟ فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَخَذَ جُبَّةَ رَاعٍ وَسَارَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ ثُمَّ أَتَى الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا كَذَا فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ.
(قَوْلُهُ: وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيّ) بْنِ إبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ الْعَابِدِ الْمَشْهُورِ. صَحِبَ أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الصَّلَاةِ، ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَهُوَ أُسْتَاذُ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ، وَصَحِبَ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، مَاتَ شَهِيدًا سَنَةَ (١٩٤) تَمِيمِيٌّ.
(قَوْلُهُ: وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ) بْنِ فَيْرُوزَ، مِنْ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ، مُجَابِ الدَّعْوَةِ، يُسْتَسْقَى بِقَبْرِهِ وَهُوَ أُسْتَاذُ السِّرِّيِّ السَّقَطِيِّ مَاتَ سَنَةَ (٢٠٠) .
(قَوْلُهُ: وَأَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ) شَيْخُ الْمَشَايِخِ، وَذُو الْقَدَمِ الرَّاسِخِ، وَاسْمُهُ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى. كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا وَأَسْلَمَ، مَاتَ سَنَةَ (١٦١) .
(قَوْلُهُ: وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ) الْخُرَاسَانِيِّ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَأَنَّهُ عَشِقَ جَارِيَةً وَارْتَقَى جِدَارًا لَهَا، فَسَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو - {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: ١٦] فَتَابَ وَرَجَعَ، فَوَرَدَ مَكَّةَ وَجَاوَرَ بِهَا الْحَرَمَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ (١٨٧) رِسَالَةُ الْقُشَيْرِيِّ. وَذَكَرَ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّهُ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، فَأَخَذَ عَنْ إمَامٍ عَظِيمٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ إمَامٌ عَظِيمٌ. وَرَوَى لَهُ إمَامَانِ عَظِيمَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَرْجَمَهُ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُهُ بِتَرْجَمَةٍ حَافِلَةٍ.
(قَوْلُهُ: وَدَاوُد الطَّائِيِّ) هُوَ ابْنُ نَصْرِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيِّ الطَّائِيِّ، الْعَالِمُ الْعَامِلُ، الزَّاهِدُ الْعَابِدُ، أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ، كَانَ مِمَّنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَدَرَسَ الْفِقْهَ وَغَيْرَهُ، ثُمَّ اخْتَارَ الْعُزْلَةَ وَلَزِمَ الْعِبَادَةَ. قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: لَوْ كَانَ دَاوُد فِي الْأُمَمِ