للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَأَجَابَهُ بِأَنْ: احْذَرْ أَنْتَ السُّقُوطَ، فَإِنَّ فِي سُقُوطِ الْعَالِمِ سُقُوطُ الْعَالَمِ، فَحِينَئِذٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إنْ تَوَجَّهَ لَكُمْ دَلِيلٌ فَقُولُوا بِهِ، فَكَانَ كُلٌّ يَأْخُذُ بِرِوَايَةٍ عَنْهُ وَيُرَجِّحُهَا، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ احْتِيَاطِهِ وَوَرَعِهِ

-

ــ

[رد المحتار]

(قَوْلُهُ: فَأَجَابَهُ إلَخْ) لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الصَّبِيِّ مَا أَحْكَمَهُ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ سُقُوطَهُ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَسَدُهُ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي الدِّينِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِسُقُوطٍ، بِخِلَافِ سُقُوطِ الْعَالِمِ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي نَيْلِ الْمَقْصُودِ يَلْزَمُ مِنْهُ سُقُوطُ غَيْرِهِ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ أَيْضًا، فَيَعُودُ ضَرَرُهُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ فِي الدِّينِ، عَلَى حَدٍّ قَوْله تَعَالَى - {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج: ٤٦]- الْآيَةَ: أَيْ الْعَمَى الضَّارُّ لَيْسَ عَمَى الْأَبْصَارِ وَإِنَّمَا عَمَى الْقُلُوبِ.

(قَوْلُهُ: فَحِينَئِذٍ إلَخْ) رَوَى الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الشِّيرَامَاذِيُّ عَنْ شَقِيقٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَأَعْبَدْ النَّاسِ، وَأَكْرَمِ النَّاسِ، وَأَكْثَرِهِمْ احْتِيَاطًا فِي الدِّينِ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ لَا يَضَعُ مَسْأَلَةً فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَجْمَعَ أَصْحَابَهُ عَلَيْهَا وَيَعْقِدَ عَلَيْهَا مَجْلِسًا، فَإِذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ عَلَى مُوَافَقَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ قَالَ لِأَبِي يُوسُفَ أَوْ غَيْرِهِ ضَعْهَا فِي الْبَابِ الْفُلَانِيِّ. اهـ. كَذَا فِي الْمِيزَانِ لِلْإِمَامِ الشَّعْرَانِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ. وَنَقَلَ ط عَنْ مُسْنَدِ الْخُوَارِزْمِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَلْفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَجَلُّهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَرْبَعُونَ قَدْ بَلَغُوا حَدَّ الِاجْتِهَادِ، فَقَرَّبَهُمْ وَأَدْنَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّى أَلْجَمْت هَذَا الْفِقْهَ وَأَسْرَجْته لَكُمْ فَأَعِينُونِي، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ جَعَلُونِي جِسْرًا عَلَى النَّارِ، فَإِنَّ الْمُنْتَهَى لِغَيْرِي، وَاللَّعِبَ عَلَى ظَهْرِي، فَكَانَ إذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ شَاوَرَهُمْ وَنَاظَرَهُمْ وَحَاوَرَهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَيَسْمَعُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ وَيَقُولُ مَا عِنْدَهُ وَيُنَاظِرُهُمْ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يَسْتَقِرَّ آخِرُ الْأَقْوَالِ فَيُثْبِتَهُ أَبُو يُوسُفَ، حَتَّى أَثْبَتَ الْأُصُولَ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، شُورَى، لَا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: إنْ تَوَجَّهَ لَكُمْ دَلِيلٌ) أَيْ ظَهَرَ لَكُمْ فِي مَسْأَلَةٍ وَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقُولُ ط.

(قَوْلُهُ: فَقُولُوا بِهِ) وَكَانَ كَذَلِكَ، فَحَصَلَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ الصَّاحِبَيْنِ فِي نَحْوِ ثُلُثِ الْمَذْهَبِ، وَلَكِنْ الْأَكْثَرُ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ ط.

(قَوْلُهُ: فَكَانَ كُلٌّ يَأْخُذُ بِرِوَايَةٍ عَنْهُ) أَيْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ أَقْوَالِهِ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا قُلْت قَوْلًا خَالَفْت فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا قَوْلًا قَدْ كَانَ قَالَهُ. وَرَوَى عَنْ زُفَرُ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَالَفْت أَبَا حَنِيفَةَ فِي شَيْءٍ إلَّا قَدْ قَالَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ مَا سَلَكُوا طَرِيقَ الْخِلَافِ، بَلْ قَالُوا مَا قَالُوا عَنْ اجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ اتِّبَاعًا لِمَا قَالَهُ أُسْتَاذُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ. اهـ.

وَفِي آخِرِ الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ: وَإِذَا أَخَذَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَكُونُ بِهِ آخِذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْكِبَارِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلًا إلَّا وَهُوَ رِوَايَتُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانًا غِلَاظًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إذًا فِي الْفِقْهِ جَوَابٌ وَلَا مَذْهَبٌ إلَّا لَهُ كَيْفَمَا كَانَ، وَمَا نُسِبَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلْمُوَافَقَةِ. اهـ.

فَإِنْ قُلْت: إذَا رَجَعَ الْمُجْتَهِدُ عَنْ قَوْلٍ لَمْ يَبْقَ قَوْلًا لَهُ، بَلْ صَرَّحَ فِي قَضَاءِ الْبَحْرِ بِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ وَأَنَّ الْمَرْجُوعَ عَنْهُ لَيْسَ قَوْلًا لَهُ. اهـ. وَفِيهِ عَنْ التَّوْشِيحِ أَنَّ مَا رَجَعَ عَنْهُ الْمُجْتَهِدُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ مُخَالِفِينَ لَهُ فِيهِ لَيْسَ مَذْهَبَهُ، فَحِينَئِذٍ صَارَتْ أَقْوَالُهُمْ مَذَاهِبَ لَهُمْ، مَعَ أَنَّا الْتَزَمْنَا تَقْلِيدَ مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَلِذَا نَقُولُ إنَّ مَذْهَبَنَا حَنَفِيٌّ لَا يُوسُفِيٌّ وَنَحْوُهُ. مَطْلَبُ صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي

قُلْت: قَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَقْوَالِهِ بِمَا يُتَّجَهُ لَهُمْ مِنْهَا عَلَيْهِ الدَّلِيلُ صَارَ مَا قَالُوهُ قَوْلًا لَهُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى قَوَاعِدِهِ الَّتِي أَسَّسَهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ مَرْجُوعًا عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَيْضًا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ بِيرِيّ فِي أَوَّلِ شَرْحِهِ عَلَى الْأَشْبَاهِ عَنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الشِّحْنَةِ، وَنَصُّهُ: إذَا صَحَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>