للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قُلْت: وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَنُصُّ فِي مَنْشُورِهِ عَلَى نَهْيِهِ عَنْ الْقَضَاءِ بِالْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ، فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيهِ وَيُنْقَضُ كَمَا بُسِطَ فِي قَضَاءِ الْفَتْحِ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَغَيْرِهَا. قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: وَهَذَا صَرِيحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَضُّ عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ، نَعَمْ أَمْرُ الْأَمِيرِ مَتَى صَادَفَ فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ نَفَذَ أَمْرُهُ، كَمَا فِي سِيَرِ التَّتَارْخَانِيَّة وَشَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَلْيُحْفَظْ.

ــ

[رد المحتار]

فِي الْقُنْيَةِ عَنْ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ، وَجَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَتِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ، وَادَّعَى فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْمُقَلِّدَ إذَا قَضَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ أَوْ بِرِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ ضَعِيفٍ نَفَذَ. وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا وَقَضَى بِالْفَتْوَى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ نَفَذَ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ كَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ أَيْضًا اهـ قَالَ فِي النَّهْرِ: وَمَا فِي الْفَتْحِ يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا، إذْ قُصَارَى الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ النَّاسِي لِمَذْهَبِهِ، وَقَدْ مَرَّ عَنْهُمَا فِي الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فَالْمُقَلِّدُ أَوْلَى اهـ.

(قَوْلُهُ: فِي مَنْشُورِهِ) الْمَنْشُورُ: مَا كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ مِنْ كُتُبِ السُّلْطَانِ قَامُوسٌ.

(قَوْلُهُ: فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ) أَيْ فَكَيْفَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِالْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِي مَذْهَبِهِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيهَا فَبِخِلَافِ مَذْهَبِهِ بِالْأَوْلَى، وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا إنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ تَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالشَّخْصِ، فَلَوْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْقَضَاءَ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ تَعَيَّنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَلَوْ نَهَاهُ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ فِيهَا، كَمَا إذَا نَهَاهُ عَنْ سَمَاعِ حَادِثَةٍ مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلَا مَانِعٍ شَرْعِيٍّ وَالْخَصْمُ مُنْكِرٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ أَنَّ عَادَةَ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا إذَا تَوَلَّى أَحَدُهُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ قَانُونُ مَنْ قَبْلَهُ وَأُمِرَ بِاتِّبَاعِهِ.

(قَوْلُهُ: وَيَنْقُضُ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ لِمَا ذُكِرَ لَا يَصِحُّ لَهُ قَضَاءٌ حَتَّى يَنْقُضَ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا يَكُونُ لِلثَّابِتِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَضَاءٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ ط.

(قَوْلُهُ: قَالَ فِي الْبُرْهَانِ) هُوَ شَرْحُ مَوَاهِبِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا لِلْعَلَّامَةِ إبْرَاهِيمِ الطَّرَابُلُسِيِّ صَاحِبِ الْإِسْعَافِ فِي الْأَوْقَافِ.

(قَوْلُهُ: بِالنَّوَاجِذِ) هِيَ أَضْرَاسُ الْحُلُمِ كَمَا فِي الْمُغْرِبِ، وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّمَسُّكِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الضَّحِكِ وَإِلَّا فَلَا تَبْدُو بِالضَّحِكِ عَادَةً كَمَا حَقَّقَهُ الْإِمَامُ الزَّمَخْشَرِيّ.

(قَوْلُهُ: نَعَمْ أَمْرُ الْأَمِيرِ إلَخْ) تَصْدِيقٌ لِمَا مَرَّ وَاسْتِدْرَاكٌ بِأَمْرِ آخَرَ كَالِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا قَبْلَهُ، هَكَذَا عُرْفُ الْمُصَنِّفِينَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ.

(قَوْلُهُ: نَفَذَ أَمْرُهُ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ بِلَا قَضَاءٍ فَظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالنَّفَاذِ وُجُوبُ الِامْتِثَالِ، وَهَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي سِيَرِ التَّتَارْخَانِيَّة فِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ طَاعَةُ الْأَمِيرِ وَمَا لَا يَجِبُ، وَنَصُّهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِذَا أَمَرَ الْأَمِيرُ الْعَسْكَرَ بِشَيْءٍ كَانَ عَلَى الْعَسْكَرِ أَنْ يُطِيعُوهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعْصِيَةً بِيَقِينٍ. اهـ. وَلَكِنْ لَا مَحَلَّ لِذِكْرِ هَذَا هُنَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَضَاءَ إلَّا بِتَفْوِيضٍ مِنْ الْإِمَامِ. قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: يَجُوزُ قَضَاءُ الْأَمِيرِ الَّذِي يُولِي الْقَضَاءَ وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إلَى الْقَاضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، فَقَضَاءُ الْأَمِيرِ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمُلْتَقَطِ. وَقَدْ أَفْتَيْت بِأَنَّ تَوْلِيَةَ بَاشَا مِصْرَ قَاضِيًا لِيَحْكُمَ فِي قُبَّةٍ بِمِصْرَ مَعَ وُجُودِ قَاضِيهَا الْمُوَلَّى مِنْ السُّلْطَانِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ ذَلِكَ اهـ فَتَأَمَّلْ.

(قَوْلُهُ: سِيَرِ) جَمْعُ سِيرَةٍ: وَهِيَ الطَّرِيقَةُ فِي الْأُمُورِ. وَفِي الشَّرْعِ تَخْتَصُّ بِسِيَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَغَازِيهِ هِدَايَةٌ.

(قَوْلُهُ: السِّيَرِ الْكَبِيرِ) لِلْإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ ط. وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَقَالُوا السِّيَرُ الْكَبِيرُ فَوَصَفُوهَا بِصِفَةِ الْمُذَكَّرِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ، كَقَوْلِهِمْ: صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَسِيَرُ الْكَبِيرِ خَطَأٌ كَجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَامِعِ الْكَبِيرِ. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>