للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَسَائِلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الظَّفَرِ، وَهِيَ أَنَّكَ إِنْ ظَلَمَكَ إِنْسَانٌ: بِأَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِكَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُمْكِنْ لَكَ إِثْبَاتُهُ، وَقَدَرْتَ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ظَلَمَكَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَأْمَنُ مَعَهُ الْفَضِيحَةَ وَالْعُقُوبَةَ ; فَهَلْ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ أَوْ لَا؟ .

أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَأَجْرَأُهُمَا عَلَى ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَعَلَى الْقِيَاسِ: أَنَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ حَقِّكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [١٦ \ ١٢٦] ، وَقَوْلِهِ: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [٢ \ ١٩٤] .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ; وَعَلَيْهِ دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ: وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْهَا لِمَنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِهَا.

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ. وَلَا تَخُنْ مِنْ خَانَكَ "، اه. وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ لَا يَنْهَضُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ ; لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَخُنْ مَنْ خَانَهُ، وَإِنَّمَا أَنْصَفَ نَفْسَهُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ، فَمَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، وَمَنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ قُتِلَ بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رَضُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَ يَهُودِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ; قِصَاصًا لِجَارِيَةٍ فَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ ".

وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، زَاعِمًا أَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ شِبْهُ عَمْدٍ، لَا عَمْدٌ صَرِيحٌ حَتَّى يَجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي (سُورَةِ الْإِسْرَاءِ) .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَطْلَقَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اسْمَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [١٦ \ ١٢٦] ، وَالْجِنَايَةُ الْأُولَى لَيْسَتْ عُقُوبَةً ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ ; فَيُؤَدِّي لَفْظٌ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ مُشَاكَلَةً لِلَفْظٍ آخَرَ مُقْتَرِنٍ بِهِ فِي الْكَلَامِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَهُ ... قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا

<<  <  ج: ص:  >  >>