للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِنْتَاجِ كُلِّ حَاجِيَاتِهَا حَتَّى الْإِبْرَةِ ; لِتَسْتَغْنِيَ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِلَّا احْتَاجَتْ إِلَى الْغَيْرِ بِقَدْرِ مَا قَصَّرَتْ فِي الْإِنْتَاجِ، وَهَذَا هُوَ وَاقِعُ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، إِذِ الْقُدْرَةُ الْإِنْتَاجِيَّةُ هِيَ الْمُتَحَكِّمَةُ وَذَاتُ السِّيَادَةِ الدَّوْلِيَّةِ.

وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ الْأَوْلَوِيَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَلُّوا مَكَانَهُمْ، وَيُحَافِظُوا عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَيُشَيِّدُوا كِيَانَهُمْ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ.

ذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ فِي قِرَاءَةِ: ءَأَمِنْتُمْ عِدَّةَ قِرَاءَاتٍ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَمِنْ تَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ وَمِنْ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْخَسْفُ ذَهَابُهَا سُفْلًا، كَمَا خُسِفَ بِقَارُونَ، وَالْمَوْرُ الْحَرَكَةُ الْمُضْطَرِبَةُ أَوِ الْحَرَكَةُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ ثَبَّتَهَا تَعَالَى بِالْجِبَالِ أَوْتَادًا كَمَا قَالَ: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ [٧٩ \ ٣٢ - ٣٣] وَ (مَنْ فِي السَّمَاءِ) . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ.

وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ: مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ خَسْفِ الْأَرْضِ وَإِرْسَالِ الْحَاصِبِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى الْكِسَائِيِّ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ كَأَبِي حَيَّانَ، إِذَا قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمَجَازُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَلَكُوتَهُ فِي السَّمَاءِ أَيْ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَمَلَكُوتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ خَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا مَسْكَنُ مَلَائِكَتِهِ، وَثَمَّ عِزَّتُهُ وَكُرْسِيُّهُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَمِنْهَا تَتَنَزَّلُ قَضَايَاهُ وَكُتُبُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَهْيُهُ، إِلَخْ.

وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ ; لِأَنَّهُ الْمُوَكَّلُ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُجَارَاةٌ لَهُمْ فِي مُعْتَقَدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنَاهَا عَلَى نَفْيِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِرَارًا مِنَ التَّشْبِيهِ فِي نَظَرِهِمْ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ خِلَافُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَمُعْتَقَدُ السَّلَفِ هُوَ طِبْقُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِحَدِيثِ الْجَارِيَةِ: " أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: اعْتِقْهَا ; فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ "، وَلِعِدَّةِ آيَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثَ بِأَوْسَعِ وَأَوْضَحِ مَا يُمْكِنُ مِمَّا لَمْ يَدَعْ لَبْسًا، وَلَا يَتْرُكُ شُبْهَةً، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مُسْلِمٌ عَالِمًا كَانَ أَوْ مُتَعَلِّمًا، فَالْعَالِمُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَنْهَجَ التَّعْلِيمِ السَّلِيمِ وَأُسْلُوبَ الْبَيَانِ الْحَكِيمِ، وَالْمُتَعَلِّمُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>