تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [٩ \ ٣٨] أَيْ بَدَلًا مِنْهَا وَعِوَضًا عَنْهَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ
أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى: يَنْشُرْ لَكُمْ: يَبْسُطُ لَكُمْ: كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [٤٢ \ ٢٨] .
وَقَوْلُهُ: وَيُهَيِّئْ ; أَيْ يُيَسِّرْ وَيُقَرِّبْ وَيُسَهِّلْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَحَدِهِمَا وَعَدَمِ صِحَّةِ الْآخَرِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْكَهْفِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّمْسِ حَوَاجِزُ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ نَفْسِ الْكَهْفِ، تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا فِي فَجْوَةٍ مِنَ الْكَهْفِ عَلَى سَمْتٍ تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَتُقَابِلُهُ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ مَنَعَ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَرَامَةً لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ طَاعَةً لِرَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا.
وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [١٨ \ ١٧] ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مُعْتَادًا مَأْلُوفًا، وَلَيْسَ فِيهِ غَرَابَةٌ حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَمَعْنَى تَزَاوُرِ الشَّمْسِ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقَرْضِهَا إِيَّاهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ عِنْدَ غُرُوبِهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُقَلِّصُ ضَوْءَهَا عَنْهُمْ، وَيُبْعِدُهُ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ عِنْدَ الطُّلُوعِ، وَإِلَى جِهَةِ الشِّمَالِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ الْكَهْفِ، وَجَزَمَ