قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ إِلَى قَوْلِهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [١١ \ ٢٧ - ٢٩] .
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا عَلَى صِدْقِ مَقَالَةِ هِرَقْلَ، حِينَمَا سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهُمْ سَادَةُ الْقَوْمِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. فَقَالَ: هَكَذَا هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْفِطْرَةِ، وَأَبْعَدُ عَنِ السُّلْطَانِ وَالْجَاهِ، فَلَيْسَ لَدَيْهِمْ حِرْصٌ عَلَى مَنْصِبٍ يَضِيعُ، وَلَا جَاهٍ يُهْدَرُ، وَيَجِدُونَ فِي الدِّينِ عِزًّا وَرِفْعَةً، وَهَكَذَا كَانَ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ، وَهَكَذَا هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى
بَيَانٌ لِمَوْقِفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَحِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ الْجَمِيعِ حَتَّى مَنْ أَعْرَضَ وَاسْتَغْنَى، شَفَقَةً بِهِمْ وَرَحْمَةً، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى حَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [٩ \ ١٢٨] وَكَقَوْلِهِ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ \ ٦] .
وَقَوْلِهِ: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، بَيَانٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَتَزَكَّى، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [١٣ \ ٧] ، وَقَوْلِهِ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [٤٢ \ ٤٨] ، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [٢ \ ١٧٢] ، وَمِثْلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [٢٦ \ ١١٤ - ١١٥] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ
مَعْلُومٌ أَنَّ كَلِمَةَ «كَلَّا» : رَدْعٌ عَمَّا سَبَقَ، وَهُوَ فِي جُمْلَتِهِ مُنْصَبٌّ عَلَى التَّصَدِّي لِمَنِ اسْتَغْنَى. وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى سَمَاعِهِمْ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالدِّينِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَنْ تُبْذَلَ لِقَوْمٍ هَذِهِ حَالَتُهُمْ، فَهِيَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ