لَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [٢ \ ٢٧٥] ، وَقَوْلُهُ: مَا سَلَفَ أَيْ: مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [٤ \ ٢٢] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [٤ \ ٢٣] . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ عَفْوٌ، لِأَنَّهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [٩ \ ١١٥] ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، وَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى الْآيَةَ [٩ \ ١١٣]- نَدِمُوا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُمْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ بَيَانِ مَنْعِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ يُعْذَرُ بِهِ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ \ ١٥] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ.
الصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي تُسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، أَيْ صَوْتٌ إِذَا قُرِعَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الصَّلْصَالُ الْمُنْتِنُ، وَالْفَخَّارُ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا طَوْرًا مِنْ أَطْوَارِ التُّرَابِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [٣ \ ٥٩] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٢٢ \ ٥] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [٣٠ \ ٢٠] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [٤٠ \ ٦٧] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [٢٠ \ ٥٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute