وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً وَمَعْنَى هَذَا: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلَا يَسْخَرَ مِنْهُ، وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْسُدَهُ وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى: أَتَصْبِرُونَ [٢٥ \ ٢٠] : أَيْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَصْحَابُ الْبَلَايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالْأَعْمَى يَقُولُ لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ، وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَحُكَّامُ الْعَدْلِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [٤٣ \ ٣١] فَالْفِتْنَةُ أَنْ يَحْسُدَ الْمُبْتَلَى الْمُعَافَى، وَيُحَقِّرَ الْمُعَافَى الْمُبْتَلَى، وَالصَّبْرُ أَنْ يَحْبِسَ كِلَاهُمَا نَفْسَهُ، هَذَا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَلِكَ عَنِ الضَّجَرِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.
وَإِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى كَوْنِ بَعْضِهِمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [٦ \ ٥٣] . فِيهِ فِتْنَةُ أَغْنِيَاءِ الْكُفَّارِ بِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ احْتَقَرُوهُمْ وَازْدَرُوهُمْ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي زَعْمِهِمْ لِفَقْرِهِمْ، وَرَثَاثَةِ حَالِهِمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْحَمَهُمُ اللَّهُ وَيُعْطِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْوَاسِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [٤٦ \ ١١] وَقَالَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [٣٨ \ ٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَسَيُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى احْتِقَارِهِمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [٧ \ ٤٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. . . . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٨٣ \ ٢٩ - ٣٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٢ \ ٢١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَتَصْبِرُونَ) ، أَيْ عَلَى الْحَقِّ أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute