مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ فَرِيقًا سُعَدَاءَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَفَرِيقًا أَشْقِيَاءَ وَهُمْ أَصْحَابُ السَّعِيرِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [٦٤ \ ٢] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١ \ ١١٨ - ١١٩] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ - خَلَقَهُمْ - عَلَى الصَّحِيحِ -. وَنُصُوصُ الْوَحْيِ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» - وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١ \ ١١٩] عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [٥١ \ ٥٦] . وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى السَّعِيرِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ الْآيَةَ [٢٢ \ ٤] . وَالْجَنَّةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ.
وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبِيِّ مَقْتَلَةٍ ... مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا
فَقَوْلُهُ: جَنَّةً سُحُقًا، يَعْنِي بُسَتَانًا طَوِيلَ النَّخْلِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ، وَيَجُوزُ تَعَدُّدُهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ: فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ، لَا وَفَرِيقُهُمْ نَعَمْ، وَفَرِيقٌ قَالَ وَيْحَكَ مَا نَدْرِي
وَالْمُسَوِّغُ لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ فِي قَوْلِهِ: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) ، أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّفْصِيلِ.
وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا دَنَوْتُ تَسَدَّيْتُهَا ... فَثَوْبًا نَسِيتُ وَثَوبًا أَجُرْ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.ُُ