للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ فَعَلَ بِهِمْ فِرْعَوْنُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بِهِمْ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ. وَقَوْمٌ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُمْ مِنْهُ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمُ الرَّاسِخِ بِاللَّهِ تَعَالَى. لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [٢٨ ٣٥] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

قَوْلُهُ: لَنْ نُؤْثِرَكَ أَيْ: لَنْ نَخْتَارَ اتِّبَاعَكَ وَكَوْنُنَا مِنْ حِزْبِكَ، وَسَلَامَتُنَا مِنْ عَذَابِكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ. كَمُعْجِزَةِ الْعَصَا الَّتِي أَتَتْنَا وَتَيَقَنَّا صِحَّتَهَا. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِي فَطَرَنَا عَاطِفَةٌ عَلَى «مَا» مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا جَاءَنَا أَيْ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا عَلَى وَالَّذِي فَطَرَنَا أَيْ: خَلَقَنَا وَأَبْرَزَنَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. أَيْ: وَالَّذِي فَطَرَنَا لَا نُؤْثِرُكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَاقْضِ مَا أَيِ: اصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ. فَلَسْنَا رَاجِعِينَ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ: إِنَّمَا يَنْفُذُ أَمْرُكَ فِيهَا. فَـ «هَذِهِ» مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَيْ: وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُهِمُّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا.

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ وَوَعِيدِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» عَنْهُمْ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [٢٦ \ ٥٠] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [٧ ١٢٥ - ١٢٦] . وَقَوْلُهُ: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ عَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا أَنْتَ قَاضِيهِ لِأَنَّهُ مَخْفُوضٌ بِالْوَصْفِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

كَذَاكَ حَذْفُ مَا بِوَصْفٍ خُفِضَا ... كَأَنْتَ قَاضٍ بَعْدَ أَمْرٍ مِنْ قَضَى

وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ الْمَازِنِيِّ:

وَيَصْغُرُ فِي عَيْنَيْ تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ ... يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبًا

<<  <  ج: ص:  >  >>