للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمُ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» .

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَّرَنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا:

كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَالْجَارِ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلِّهِ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ الْآيَةَ [١٧ \ ١٨] .

فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُقَيِّدَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا، وَأَشَارَ لَهُ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:

وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبْ ... إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبْ

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا

الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَشْرَعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ فِي الْعِبَادَةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْعُدُ مَذْمُومًا مَخْذُولًا.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ لَا نَفْسُ خِطَابِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [١٧ \ ٢٣] ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْآيَةَ [١٧ \ ٢٣] ، أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا الْكِبَرَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَالِدَيْهِ قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ بَعْدَ أَنْ مَاتَا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ التَّشْرِيعُ لِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ خِطَابُهُمْ إِنْسَانًا وَالْمُرَادُ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ، وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ السَّائِرَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ، وَهُوَ سَهْلُ بْنُ مَالِكٍ الْفَزَارِيُّ:

إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ

<<  <  ج: ص:  >  >>