فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ. [٣٨ - ٧٤] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَشْقَى أَيْ: فَتَتْعَبُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ بِالْكَدِّ، وَالِاكْتِسَابِ. لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ لُقْمَةَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْرُثَ الْأَرْضَ، ثُمَّ يَزْرَعُهَا، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَدْرُسُهُ، ثُمَّ يُنَقِّيهِ، ثُمَّ يَطْحَنُهُ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ، ثُمَّ يَخْبِزُهُ. فَهَذَا شَقَاؤُهُ الْمَذْكُورُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّقَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّعَبُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعِيشَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [٢٠ \ ١١٨ - ١١٩] ، يَعْنِي احْذَرْ مِنْ عَدُوِّكَ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِ الرَّاحَةِ الَّتِي يُضْمَنُ لَكَ فِيهَا الشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْكُسْوَةُ، وَالسَّكَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَفَافُ الْإِنْسَانِ، فَذِكْرُهُ اسْتِجْمَاعَهَا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مَكْفِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِفَايَةِ كَافٍ، وَلَا إِلَى كَسْبِ كَاسِبٍ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا. وَذِكْرُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِنَقَائِضِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ، وَالْعُرْيُ، وَالظَّمَأُ، وَالضَّحْوُ لِيَطْرُقَ سَمْعَهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [٢٠ \ ١١٨] ، قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي كَدِّ الْمَعِيشَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ الْجُوعَ، وَالظَّمَأَ، وَالْعُرْيَ، وَالضَّحَاءَ. وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: خِلَافُ اللُّبْسِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَضْحَى أَيْ: لَا تَصِيرُ بَارِزًا لِلشَّمْسِ، لَيْسَ لَكَ مَا تَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنْ حَرِّهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِيَ يَضْحَى، كَرَضِيَ يَرْضَى. وَضَحَى يَضْحَى كَسَعَى يَسْعَى إِذَا كَانَ بَارِزًا لِحَرِّ الشَّمْسِ لَيْسَ لَهُ مَا يَكِنُّهُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمًا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضَحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَنْحَصِرْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ ... إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute