قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ خَارِجُونَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ [٧٤ \ ٣٨ - ٤١] .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ.
لَمْ يُذْكَرْ هُنَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْفَاكِهَةِ وَلَا هَذَا اللَّحْمِ إِلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ صِفَاتِ هَذِهِ الْفَاكِهَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [٥٦ \ ٣٢ - ٣٣] ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا أَنْوَاعٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [٤٧ \ ١٥] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [٢ \ ٢] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ [٣٧ \ ٤١ - ٤٢] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَوَصَفَ اللَّحْمَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ مِنَ الطَّيْرِ، وَالْفَاكِهَةَ بِأَنَّهَا مِمَّا يَتَخَيَّرُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [٥٦ \ ٢٠ - ٢١] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ.
قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: «لَا لَغْوَ» بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ، «وَلَا تَأْثِيمَ» كَذَلِكَ لِأَنَّهَا «لَا» الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَبُنِيَتْ مَعَهَا، وَهِيَ إِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ؛ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. لِأَنَّ لَا النَّافِيَةَ لِلْجِنْسِ إِذَا تَكَرَّرَتْ كَمَا هُنَا جَازَ إِعْمَالُهَا وَإِهْمَالُهَا، وَالْقِرَاءَتَانِ فِي الْآيَةِ فِيهِمَا الْمِثَالُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَإِعْمَالُهَا كَثِيرٌ، وَمِنْ شَوَاهِدِ إِهْمَالِهَا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا هَجَرْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لَا نَاقَةٌ لِي فِي هَذَا وَلَا جُمَلٌ
وَقَوْلُهُ: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا: أَيْ يَتَعَاطَوْنَ، وَيَتَنَاوَلُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. «كَأْسًا» أَيْ خَمْرًا، فَالتَّنَازُعُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ تَعَاطٍ وَتَنَاوُلٍ، فَكُلُّ قَوْمٍ يُعْطِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا شَيْئًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute