وَيُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ، فَهُمْ يَتَنَازَعُونَهُ كَتَنَازُعِ كُئُوسِ الشَّرَابِ وَالْكَلَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمِنْهُ فِي الشَّرَابِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
وَشَارِبٌ مُرْبِحٌ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشُّمُولِ وَقَدْ ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِ
فَقَوْلُهُ: نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ: أَيْ نَاوَلْتُهُ كُئُوسَ الْخَمْرِ وَنَاوَلْنِيهَا، وَمِنْهُ فِي الْكَلَامِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلِمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وَأَسْمَحَتْ ... هَصَرَتْ بِغُصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وَالْكَأْسُ تُطْلَقُ عَلَى إِنَاءِ الْخَمْرِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُطْلِقُ الْكَأْسَ إِلَّا عَلَى الْإِنَاءِ الْمَمْلُوءِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ يَعْنِي أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا مُخَالِفَةٌ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ لِخَمْرِ الدُّنْيَا، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا لَغْوَ فِيهَا، وَاللَّغْوُ كُلُّ كَلَامٍ سَاقِطٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا تَحْمِلُ شَارِبِيهَا عَلَى الْكَلَامِ الْخَبِيثِ وَالْهَذَيَانِ، لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُولِهِمْ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَشْرَبُوهَا سَكِرُوا وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ، فَتَكَلَّمُوا بِالْكَلَامِ الْخَبِيثِ وَالْهَذَيَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّغْوِ.
وَالتَّأْثِيمُ: هُوَ مَا يُنْسَبُ بِهِ فَاعِلُهُ إِلَى الْإِثْمِ، فَخَمْرُ الْآخِرَةِ لَا يَأْثَمُ شَارِبُهَا بِشُرْبِهَا، لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ، فَنَعِمَ بِلَذَّتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [٤٧ \ ١٥] ، وَلَا تَحْمِلُ شَارِبَهَا عَلَى أَنْ يَفْعَلَ إِثْمًا بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا، فَشَارِبُهَا يَأْثَمُ بِشُرْبِهَا وَيَحْمِلُهُ السُّكْرُ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحْرِمَاتِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ مُخَالَفَةِ خَمْرِ الْآخِرَةِ لِخَمْرِ الدُّنْيَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [٣٧ \ ٤٥ - ٤٧] ، وَقَوْلِهِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ: أَيْ لَيْسَ فِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ فَيُذْهِبُهَا كَخَمْرِ الدُّنْيَا. وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ: أَيْ لَا يَسْكَرُونَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [٥٦ \ ١٧ - ١٩] ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute