للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [٣١ \ ٢٢] ، وَمَعْنَى إِسْلَامِ وَجْهِهِ لِلَّهِ إِطَاعَتُهُ وَإِذْعَانُهُ، وَانْقِيَادُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا، أَيْ: مُخْلِصًا عَمَلَهُ لِلَّهِ لَا يُشْرِكُ فِيهِ بِهِ شَيْئًا مُرَاقِبًا فِيهِ لِلَّهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ إِسْلَامَ الْوَجْهِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْإِذْعَانَ وَالِانْقِيَادَ التَّامَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ: [الْمُتَقَارِبُ]

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [٤ \ ٣] ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَوْلُهُ هُنَا: وَمَا يُتْلَى [٤ \ ١٢٧] فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مَعْطُوفًا عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [٤ \ ١٢٧] ، أَيْضًا: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى الْآيَةَ، وَمَضْمُونُ مَا أَفْتَى بِهِ هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ هُوَ تَحْرِيمُ هَضْمِ حُقُوقِ الْيَتِيمَاتِ فَمَنْ خَافَ أَنْ لَا يُقْسِطَ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ فَيَتْرُكْهَا وَلْيَنْكِحْ مَا طَابَ لَهُ سِوَاهَا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ الْجَرِّ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، هُوَ عَنْ أَيْ: تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِقِلَّةِ مَالِهِنَّ وَجِمَالِهِنَّ، أَيْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ مَالٍ وَجَمَالٍ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُهُنَّ إِنْ كُنَّ ذَوَاتُ مَالٍ وَجِمَالٍ إِلَّا بِالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِنَّ فِي حُقُوقِهِنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَرْفُ الْمَحْذُوفُ هُوَ «فِي» أَيْ: تَرْغَبُونَ فِي نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ مُتَّصِفَاتٍ بِالْجَمَالِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ أَنَّكُمْ لَا تُقْسِطُونَ فِيهِنَّ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ مَحَلِّ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا أَجَازُوا ذَلِكَ فِي الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ كَقَوْلِكَ: أَغْنَانِي زَيْدٌ وَعَطَاؤُهُ، فَإِسْنَادُ الْإِغْنَاءِ إِلَى زَيْدٍ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَطَاءِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَجَازَ جَمْعُهَا، وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقِيٌّ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى مَا يُتْلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>