للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْقُرَى الْمَاضِيَةَ لَمَّا ظَلَمَتْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ.

وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْقُرَى وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى، كَمَا تَقَدَّمَ بَعْضُ تَفَاصِيلِهِ، وَالْقُرَى: جَمْعُ قَرْيَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ; لِأَنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى «فُعَلٍ» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لَا يَنْقَاسُ إِلَّا فِي جَمْعِ «فُعْلَةٍ» بِالضَّمِّ اسْمًا كَغُرْفَةٍ وَقِرْبَةٍ، أَوْ «فُعْلَى» إِذَا كَانَتْ أُنْثَى الْأَفْعَلِ خَاصَّةً، كَالْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَفُعَلٌ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ عُرِفْ وَنَحْوُ كُبْرَى. . . إِلَخْ أَيْ: وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَسَمَاعٌ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي التَّسْهِيلِ نَوْعًا ثَالِثًا يَنْقَاسُ فِيهِ «فُعَلٌ» بِضَمٍّ فَفَتَحَ، وَهُوَ الْفُعُلَةُ بِضَمَّتَيْنِ إِنْ كَانَ اسْمًا كَجُمُعَةٍ وَجُمَعٍ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَتِلْكَ الْقُرَى [١٨ \ ٥٩] ، إِنَّمَا أُشِيرُ بِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٣٧ \ ١٣٧ - ١٣٨] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [١٥ \ ٧٦] ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [١٥ \ ٧٩] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ «وَتِلْكَ» مُبْتَدَأٌ وَ «الْقُرَى» صِفَةٌ لَهُ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْلُهُ: «أَهْلَكْنَاهُمْ» هُوَ الْخَبَرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ «الْقُرَى» وَجُمْلَةُ «أَهْلَكْنَاهُمْ» فِي مَحَلِّ حَالٍ، كَقَوْلِهِ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [٢٧ \ ٥٢] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: «وَتِلْكَ» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْعَامِلُ الْمُشْتَغِلُ بِالضَّمِيرِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:

إِنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سَابِقٍ فِعْلًا شَغَلْ ... عَنْهُ بِنَصْبِ لَفْظِهِ أَوِ الْمَحَلْ

فَالسَّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا ... حَتْمًا مُوَافِقٌ لِمَا قَدْ أُظْهِرَا

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [١٨ \ ٥٩] ، قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا عَاصِمًا بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، أَيْ: جَعَلْنَا لِإِهْلَاكِهِمْ مَوْعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ، أَيْ:

<<  <  ج: ص:  >  >>