فَالْفَزَعُ مِنْ صَعْقَةِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ مَنْ شَاءَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنَيْنَ وَمَنْ يَبْقَى فِي الْفَزَعِ، فَبَيَّنَ الْآمِنِينَ وَهُمْ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ، وَالْآخَرُونَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا مَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: التَّحْرِيقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [٨٥ \ ١٠] .
وَالثَّانِي: الِابْتِلَاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ مِرَارًا فِي كِتَابِهِ وَدُرُوسِهِ، أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ. تَقُولُ: اخْتَبَرْتُ الذَّهَبَ إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ ; لِتَعْرِفَ زَيْفَهُ مِنْ خَالِصِهِ.
وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا.
وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أَيْ: عَدَدَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّحْرِيقَ وَالْوَعِيدَ بِالنَّارِ، لَمَا كَانَ مَجَالٌ لِتَسَاؤُلِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرِينَ عَنْ هَذَا الْمَثَلِ، وَلَمَا كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا، وَلَمَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ عَدَدِ جُنُودِ رَبِّكَ بِحَالٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِدَّةُ مَسَائِلَ هَامَّةٍ.
الْأُولَى: جَعْلُ الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: جَعْلُ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ فِتْنَةً لِتَوَجُّهِ السُّؤَالِ أَوْ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِذْعَانِ، فَقَدْ تَسَاءَلَ الْمُسْتَبْعِدُونَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَذْعَنَ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي صَرِيحِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [٢ \ ٦٢] .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ طِبْقَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ هُنَا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [٢ \ ٢٦]