ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. أَيْ: أَشَدُّ أَلَمًا وَأَدْوَمُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ الَّتِي هِيَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [١٣] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [٤١ \ ١٦] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٦٨ \ ٣٣] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. تَقَدَّمَ بَعْضُ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَسَيَأْتِي لَهُ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى.
أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا - عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّعَنُّتِ - آيَةً عَلَى النُّبُوَّةِ كَالْعَصَا وَالْيَدِ مِنْ آيَاتِ مُوسَى، وَكَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَاقْتِرَاحِهِمْ لِذَلِكَ بِحَرْفِ التَّحْضِيضِ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ الْحَضِّ فِي طَلَبِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا يَأْتِينَا [٢٠ \ ١٣٨] ، أَيْ: هَلَّا يَأْتِينَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ: كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى، أَيْ: نَطْلُبُ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَضٍّ وَحَثٍّ. فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [٢٠ \ ١٣٣] وَهِيَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ هِيَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ وَأَدَلُّهَا عَلَى الْإِعْجَازِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا: كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [٥ \ ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٣ \ ٩٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي هُوَ الْأَظْهَرُ أَوْضَحَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٢٩
- ٥١] فَقَوْلُهُ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [٢٩ \ ٥١] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي «طه» :
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute