قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الْمُرَادَ بِمَكْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ جَعْلُهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَأَنَّ مَكْرَهُمْ هُوَ مَا فَعَلُوهُ بِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِمْ يُوسُفَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [١٢ \ ١٨] .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ، وَفَصَّلَ لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لَدَى أَوْلَادِ يَعْقُوبَ حِينَ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ عَلَى الْمَكْرِ بِهِ، وَجَعْلِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ ذَلِكَ مَا عَرَفَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وَالْآيَاتُ الْمُشِيرَةُ لِإِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ، بِدَلِيلِ إِخْبَارِهِ بِالْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ عِلْمُ حَقَائِقِهَا إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ الْآيَةَ [٣ \ ٤٤] .
وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ الْآيَةَ [٢٨ \ ٤٤] .
وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [٢٨ \ ٤٥] .
وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [٢٨ \ ٤٦] .
وَقَوْلِهِ: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [٣٨ \ ٦٩، ٧٠] .
وَقَوْلِهِ: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْآيَةَ [١١ \ ٤٩] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْبَاهِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْحَصْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، وَهُمُ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِتَوْحِيدِهِمْ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
فَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الَّذِي هُوَ خَالِقُهُمْ، وَمُدَبِّرُ شُئُونِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِشِرْكِهِمْ عِبَادَتُهُمْ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ