للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي حَنَكِهِ لِتَقُودَهُ حَيْثُ شِئْتَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَكْتُ الْفَرَسَ أَحْنُكُهُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ) وَاحْتَنَكْتُهُ: إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ الرَّسَنَ ; لِأَنَّ الرَّسَنَ يَكُونُ عَلَى حَنَكِهِ. وَقَوْلُ الْعَرَبِ: احْتَنَكَ الْجَرَادُ الْأَرْضَ: أَيْ أَكَلَ مَا عَلَيْهَا. مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ بِأَفْوَاهِهِ، وَالْحَنَكُ حَوْلَ الْفَمِ. هَذَا هُوَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الظَّاهِرِ، فَالِاشْتِقَاقُ فِي الْمَادَّةِ مِنَ الْحَنَكِ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِهْلَاكِ مُطْلَقًا وَالِاسْتِئْصَالِ ; كَقَوْلِ الرَّاجِزِ:

أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ... جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا وَأَضْعَفَتْ

وَاحْتَنَكَتْ أَمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْ

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا عَنْ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٦٢] ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [٧ \ ١٦، ١٧] ، وَقَوْلِهِ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [٣٨ \ ٨٢] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ «فِي سُورَةِ النِّسَاءِ» وَغَيْرِهَا.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِلَّا قَلِيلًا [١٧ \ ٦٢] بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهَذَا الْقَلِيلِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [٣٨ \ ٨٢، ٨٣] ، وَقَوْلِهِ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [١٥ \ ٣٩ - ٤٠] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَوْلُ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الْآيَةَ [١٧ \ ٦٢] ، قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ لَهُ هَذَا الظَّنُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٣٤ \ ٢٠] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ اذْهَبْ [١٧ \ ٦٣] ، هَذَا أَمْرُ إِهَانَةٍ ; أَيِ اجْهَدْ جَهْدَكَ، فَقَدْ أَنَظَرْنَاكَ فَمَنْ تَبِعَكَ، أَيْ: أَطَاعَكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [١٧ \ ٦٣] أَيْ وَافِرًا. عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ: اذْهَبْ لَيْسَ مِنَ الذَّهَابِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمَجِيءِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ. وَعَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا جَرَّهُ سُوءُ اخْتِيَارِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [١٧ \ ٦٣] .

<<  <  ج: ص:  >  >>