للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَمَا يَكُ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْإِفْكَ هُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ قَلْبٌ لِلْكَلَامِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَفَكَهُ بِمَعْنَى قَلَبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [٥٣ \ ٥٣] وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا مُؤْتَفِكَاتٌ ; لِأَنَّ الْمَلِكَ أَفَكَهَا، أَيْ: قَلَبَهَا ; كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [١١ \ ٨٢] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ الْكُفَّارَ، قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: مِمَّا كَتَبَهُ وَسَطَرَهُ الْأَوَّلُونَ كَأَحَادِيثِ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ تِلْكَ الْأَسَاطِيرِ، وَأَنَّهُ اكْتَتَبَ تِلْكَ الْأَسَاطِيرَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كَتَبَهَا لِنَفْسِهِ وَأَخَذَهَا، كَمَا تَقُولُ: اسْتَكَبَ الْمَاءَ وَاصْطَبَّهُ إِذَا سَكَبَهُ وَصَبَّهُ لِنَفْسِهِ وَأَخَذَهُ، وَقَوْلُهُ: فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ، أَيْ: تُلْقَى إِلَيْهِ، وَتُقْرَأُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِرَادَتِهِ كِتَابَتَهَا لِيَكْتُبَهَا، وَالْإِمْلَاءُ إِلْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى الْكَاتِبِ لِيَكْتُبَهُ، وَالْهَمْزَةُ مُبْدَلَةٌ مِنَ اللَّامِ تَخْفِيفًا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِمْلَاءِ الْإِمْلَالُ بِاللَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْآيَةَ [٢ \ ٢٨] .

وَقَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا، الْبُكَرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ.

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ، قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَكَتَبَهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [١٨ \ ٣١] .

وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَوْضَحْنَا تَعَنُّتَهُمْ وَكَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، وَدَلَالَةُ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>