للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَوْلُهُ «شَيْبًا» تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ «وَاشْتَعَلَ» لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ، فَيَكُونُ «شَيْبًا» مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [١٩ \ ٨] ، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [٣ \ ٤٠] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [١٩ \ ٤] ، أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [٢٠ \ ١١٧] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.

مَعْنَى قَوْلِهِ: خِفْتُ الْمَوَالِيَ [١٩ \ ٥] ، أَيْ: خِفْتُ أَقَارِبِي وَبَنِي عَمِّي وَعُصْبَتِي: أَنْ يُضَيِّعُوا الدِّينَ بَعْدِي، وَلَا يَقُومُوا لِلَّهِ بِدِينِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، فَارْزُقْنِي وَلَدًا يَقُومُ بَعْدِي بِالدِّينِ حَقَّ الْقِيَامِ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «يَرِثُنِي» أَنَّهُ إِرْثُ عِلْمٍ وَنُبُوَّةٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِدِينِهِ، لَا إِرْثَ مَالٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [١٩ \ ٥] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آلَ يَعْقُوبَ انْقَرَضُوا مِنْ زَمَانٍ، فَلَا يُورَثُ عَنْهُمْ إِلَّا الْعِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالدِّينُ.

وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ، وَإِنَّمَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ، وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>