للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجَلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ ... وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدُ وَيُطْلِقُ

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامٍ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَيَسُوءُهُمْ أَنْ تُذَكَرَ بِسُوءٍ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمْ بِهِ كَافِرُونَ لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُتَّخَذُوا هُزُؤًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي اتَّخَذُوهُ هُزُؤًا، فَإِنَّهُ مُحِقٌ وَهُمْ مُبْطِلُونَ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ جَاءَ أَيْضًا مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [٢٥ \ ٤١ - ٤٢] فَتَحْقِيرُهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [٢١ \ ٣٦] هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [٢٥ \ ٤١] وَذِكْرُهُ لِآلِهَتِهِمْ بِالسُّوءِ الْمَذْكُورِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [٢٠ \ ٤٢] أَيْ: لِمَا يُبَيِّنُ مِنْ مَعَائِبِهَا، وَعَدَمِ فَائِدَتِهَا، وَعِظَمِ ضَرَرِ عِبَادَتِهَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ.

قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَجَلٍ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا. أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَجَلُ: الطِّينُ، وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ:

الْبَيْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ ... وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ

يَعْنِي: بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: خُلِقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [١٧ \ ٦١] وَقَوْلِهِ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [٣٢ \ ٧] وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الطِّينَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>